صورة قلمية لأكاديمي بارع

من مرافئ الذاكرة القريبة: صورة قلمية لأكاديمي بارع  

 د.محمد القضاة

 
[7/5/2011 1:15:09 PM]

حين تتأمل مشهد الوطن؛ المكان والانسان تقفز أمامك المشاهد الواحد تلو الآخر، تجد بينهما ما يستحق النسيان، غير انك حين ترسم بقلمك صورة قلمية لبعض هؤلاء تشدك الذاكرة لأشياء خاصة ودقيقة هي منبع الأفكار التي تحمل القلم لرسم أجمل الألفاظ، تعبر شاطئ الحروف، تأخذ منها ما يناسب الرحلة والألوان، تَعبُ فيها خطوط الزمن؛ نهاراته البعيدة، ولياليه القريبة، تأخذك الرحلة طويلاً حين تقف بين الحرف والحرف، وبين الكلمة والأخرى، تجدك مطوقاً بالأسئلة، محاطاً بالأشواك والسلاسل، وأنت مقيد بشهوة الروح التي تبذل المستحيل لرسم أنفاسها وهي ترنو الى الزمن الأكاديمي الراقي الواعي لتفاصيل الأكاديميا، والذي يجب أن تعترف بطيب هوائه وبنسمات أفكاره، بالاذكياء منهم والأغبياء، بالوطنيين والأحرار، والمدعين والأشرار، بكل هؤلاء حيث لا تستطيع الصور ان تعود الى الأمام دون أن تركب القطار محطة محطة، تقف في كل واحدة منها تعيش لحظاتها لحظة لحظة، فتعرف أنّ المستحيل ليس مستحيلاً، وأن العقل الذكي لا يقبل المستحيل وان كانت الأشواك جبالامن    التعب والغضب...

لا تنسى صورة القلم ذلك الأكاديمي البارع وليد المعاني وهي تخط حروفها، الأكاديمي الذي جال بعلمه بين قاعات الطب الواحدة تلو الأخرى، وبيده البارعة عيادات المستشفى وغرف عملياته؛ إنه طبيب الأعصاب الذي يؤثر الدقة وقوة الملاحظة والحزم على الضعف والتخبط والتردد.
حين عرفته كان نارياً لا يعجبه العجب، كان رأيه صارماً حازماً شديداً لا يقبل أنصاف الحلول، استمر في هيبته الباذخة دون أدنى اعتبار للصغار والكبار من الأمور، غير انك حين تدقق في قسماته وتتأمل أفكاره وترسم ملامحه تجدك أمام انسان آخر، إنسان مبدع في علمه وثقافته؛ إذ لا أنسى يوم قابلته ماذا قال لي: كان والدي رحمه الله "سالم صقر" من الرعيل الأول للمربين في التربية والتعليم، وقد زرع فينا أنا وأخوتي حب العلم والقراءة والأسلوب العلمي في التفكير والبحث، وهو الأسلوب الذي أهّله لأن يؤلف الكثير من الكتب في مواضيع العلوم. وأن يكون مدرساً ناجحاً وإدارياً جيداً بشهادة كل من عاصره وزامله. وكانت له مكتبة قيمة كنت أجد فيها عوالم جديدة، لا أعلم عنها شيئاً، فغصت في أعماقها، خاصة ما يتعلق منها بعلوم التربية والعلوم البحتة. وأحببت الشعر والرواية كثيراً، واشتركت في مسابقات عديدة على مستوى المدرسة، وبعد ذلك على مستوى الجامعة، وكنت أحفظ الكثير من الشعر وما زلت، وأحببت الرسم ومارسته لفترة طويلة، وقد حباني الله بخط جميل ساعدني على هذا الأمر. وبعد ذلك استحوذت عليّ هواية جمع الطوابع بحيث تعلمت خلفيات إصدارها؛ مما زودني بمعلومات عن كثير من الدول والثقافات والشخصيات، وأحببت علم التاريخ حباً جماً، وأردت أن أتخصص فيه لأصبح معلماً للتاريخ، وكان يستهويني فيه التاريخ القديم وتاريخ الحضارات القديمة والحضارات الإنسانية بوجه عام؛ إلا أنني وعندما تخرجت عام 1963 في كلية الحسين في عمان وجدت نفسي أذهب لدراسة الطب في مصر. وهناك استكملت تكوين شخصيتي فقد كان لمصر فضل كبير عليّ وعلى من عاصرني في ذلك الوقت من الطلبة والدارسين، إذ ربما كانت الفرصة الوحيدة المتاحة للخروج والتنوّر، ولا زلت أدين بالفضل لتلك الفترة 1963-1970 التي قضيتها في الإسكندرية طالباً أولاً وطبيباً ثانياً، في تنويع مداركي وصقل حواسي وذوقي الفني والموسيقي والأدبي. وكما تذكر، لقد قامت وزارة الثقافة القومية بنشر عيون الأدب وبيعها للناس بسعر رخيص، مما جعلها في متناول الجميع، وقد وجدت فيها مصدراً كبيراً من مصادر الثقافة والتعلم.هذه صورة الطبيب المثقف الذي يعي مصادر الثقافة والحياة، غير أنك حين تتأمل مرافئ الذاكرة في زمن قريب بعيد تجده رمحاً أردنياً لا مثيل له، يقف بشموخه وكبريائه واعصابه كظل شجرة اللزاب وهي تقذف بهوائها الرطب كالنسيم العليل، انه ابن الطب والادارة، ابن معان وعمان، يقف بين وهاد الزمن، تتأمل ثقافته وطموحه فلا تجده راضيا عن نتائج افكاره، غير انك تقول هي الطريق في بلدي، الأشواك تسند الجبال والأحجار تقف في وجه الحياة دون ماء أو هواء.
اعود الى الجامعة الأردنية الى الأيام الأولى التي حدثني عنها في حقبة عظيمة قريبة من القلب والوجدان، كان حينذاك قد عاد للتو الى الجامعة الأردنية استاذاً متخصصاً بالأعصاب، وأنا حينها كنت طالباً في الجامعة الأردنية، جاء يحمل مشاعل القلم بأنامل لا تعرف الكلل أو الملل، بدأ وكأنه الراهب في كلية الطب مع اصدقائه واقرانه، واستمر في نهجه وصيرورته، ميزته انه لا ينسى الأشياء، ومزيته عقله العلمي المنظم، إذ لا تنطلي عليه الأشياء...عاش تفاصيل الطب في كليته ومستشفى الجامعة، وكان همه ان يصنع مع أقرانه قصة نجاح كلية الطب، وأن يرفع اسمها عالياً، وكان له حيث اصبحت هذه الكلية من احسن الكليات في المنطقة، وهاهم خريجوها ينتشرون في العالم كله...لم يتوقف الطموح فكانت المحطة الأخرى كلية الدراسات العليا، وهنا كانت البدايات الحقيقية لصنع النظام الذي لاينساه كل من درس في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، نظام القبول وتوابعه، حيث أعطى كل ذي حق حقه، بحيث لا يتجاوز الطلبة بعضهم بعضاً، وضَعَ المقاسات والأفكار ونفذها بعقلية جراح الأعصاب، حتى غدت قبولات الدراسات العيا في الجامعة الأردنية انموذجاً ومضرب المثل لكل راغب بالالتحاق بالدراسات العليا، وكان هاجسه ألا يدخل هذا الباب إلا من كان راغباً بالعلم لكي ينعكس ذلك على المخرجات العلمية، وسجّلت كلية الدراسات العليا منذ عقدين يوم كان عميدها صورة مضيئة لا تنسى، وعليّ أن اذكر ما قاله لي يومها عن الراغبين بالدراسات العليا: إنّ لي آراء قد لا تعجب الكثيرين في موضوع الدراسات العليا، فهي للمتميزين علمياً، وأعتقد أنها ليست لتحسين المستوى الوظيفي، أو للحصول على راتب أعلى أو ديكور للتباهي به في المجتمع. وأعتقد أنها كذلك يجب أن تكون تنفيذاً لسياسة وطنية تعتمد تحديد احتياجات المجتمع من القوى المؤهلة تأهيلاً عالياً. ولا أنسى وأنا اتذكر هذه الصور وهي تتقاذف أمامي ماذا قال عنه فوزي غرايبة حينذاك حين كان رئيساً للجامعة الأردنية من أن وليد المعاني هو جراح إداري ناجح من يعرفه يدرك معنى هذه العبارة، انتقل بعدها نائباً لرئيس الجامعة الأردنية ومارس فيها عقلية الطبيب الجراح، ووضع الخطط ووقف بنفسه على كل صغيرة وكبيرة، حتى ورش الباطون كان يباشرها بنفسه؛ لا يتردد في قراراته ولا يمهل المهمل؛ لأن الجامعة يومذاك كانت بيته الذي يعيش تفاصيله الصغيرة والكبيرة.
ولا أنسى هنا كيف نظّم الأشياء من حوله حين أصبح رئيس الأردنية، وكيف تشكلت حوله مجاميع من الأعداء الذين يحاربون النجاح، كثير من الأعداء وقلة من الأصدقاء، هؤلاء الكثرة اعترفوا له بالنجاح، حاربوه وهو على رأس الجامعة، وتمنوه بعد أن غادرها، وطالما سمعت منهم وهم يترحمون على أيامه حين كان في المواقع كلها في المستشفى والجامعة والحكومة...في الجامعة اكمل مسيرة سابقيه، لم يهدم شيئاً، كان هاجسه تعزيز البناء والاستمرار فيه وتأهيل ما يتسحق أن يؤهل...بدأ مشوار البناء واجه الصعوبات والمعيقات بحزم جراح الأعصاب بهدوء وأعصاب قوية حازمة، عمل الليل بالنهار، أعجب وأغضب،لم يمارس لعبة تغيير الأنظمة، لم تستهويه فكرة الشلل، حاربها بلا هوادة، حاور الأٌقسام الأكاديمية التي تمترس فيها الأساتذة بحس نقابي عال، وضع برامجه في رزنامة دقيقة؛ لكنها لم تكتمل بسبب الانتقال المفاجئ الى الوزارة، عاشت الجامعة الأردنية في عهده عصرها الذهبي العلمي فقد استمر بهمة من سبقوه وكان يقول الجامعة لا يبنيها الرئيس؛ وانما الكل يجب أن يشارك في البناء والعطاء.
وحين اعود الى حواري معه حين كان رئيساً للجامعة الأردنية، الى سعة أفقه، الى رحابة فكره الى رغبته وطموحه، اقف اتأمل المشاهد بعد ذلك الى اليوم لأرى أن الجامعة تحتاجنا اليوم كلنا دون استثناء لمواصلة الطريق، لا أنسى ان الرجل القوي يختار الرجال الأقوياء من حوله لقيادة الجامعة، وكان حوله مجموعة من القيادات الأكاديمية التي يشهد له بها البعيد والقريب، بالحزم والعلم والوطنية، وعلى رأسهم سلمان البدور وسامي خصاونة وعصام زعبلاوي وعبد الله الموسى ونبيل شواقفه والمرحوم اكرم الشناق وغيرهم. وحين عُيّن وزيراً للتعليم العالي في حكومة علي أبو الراغب 2002 راجع الأنظمة والتعليمات لم تعجبه مخرجات التعليم ولا حال الجامعات؛ خاصةً الخاصة منها، غير أن أبا الراغب سرعان ما عهد إليه بوزارة الصحة، حيث أنشأ فيها مؤسسة الغذاء والدواء، وأدخل حبة «الفيتامين» لطلبة المدارس، وسعى لتدريب الكوادر الطبية وأدخل فحص التلاسيميا قبل الزواج، وسعى إلى إقرار قانون المساءلة الطبية الذي قيل إن القانون إياه كان وراء خروجه، وما زال القانون ذاته حبيس الأدراج. عاد ثانية وزيرا للتعليم العالي وبدأ عملياته الجراحية في اخراج الجامعات من مرضها المزمن وواجه من المعيقات والمثبطات ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، وضع القوانين الضرورية وواجه حربا ضروسا من النواب الذين لديهم مصالح مشتركة مع رؤساء بعض الجامعات يومذاك لجهة افشال هذه القوانين، وتم تعديلها تحت ضغطهم لكي لا يخرج هؤلاء نتيجة هذه القوانين، وفي وزارة التربية وضع يده على الخلل امتحان الثانوية العامة ووضع حزمة اجرائية جديدة لغايات تغيير النمط السائد غير أنه خرج من الوزارة قبل أن ترى أفكاره النور. ولا أنسى وأنا ارسم هنا هذه اللوحة لعالم جليل هو اليوم خارج المناصب، من أن بصماته لا تنسى؛ لأنه يطمح أن يرى الأردن بمؤسساته وإنسانه وقد وصل إلى أحسن المراتب العلمية. نعم كانت افكاره نارية وجادة وجديدة وقد لا تعجب الكثيرين؛ لكنهم يعترفون له باصراره وقدرته على الحوار، وقد لا تعجب هذه الصور التي نرسمها هؤلاء، لكننا نقول للحق والحياة ان هذه الشخصيات الوطنية ستبقى نبراساً في سماء الوطن تضيء تاريخنا القريب والبعيد، وتعطي الأمل بالجديد. وبعد تتعب الحروف وهي تخط صورها وهي تقول هل من مزيد...الرحلة طويلة والناس فيها بين القبول والرفض، غير انهم يجب أن يعترفوا للجميل بجماله، وللذكي بذكائه، وللعالم بعلمه، وللبارع ببراعته، وللمبدع بابداعه، وللمنصف بانصافه، وللعادل بعدله، وللوطني بوطنيته، وللمخلص باخلاصه، وصاحبنا قدم في محطاته أعصابه وأفكاره في سبيل رفعة الوطن.

No comments:

Featured Post

PINK ROSE