قبل أن يفوت الأوان
                                     
الأستاذ الدكتور وليد المعاني

لم يكن إياد يعلم حين عاد إلى الأردن من بريطانيا قبل يومين أنه سيعود للوطن دون شهادة الزمالة البريطانية في جراحة العظام والمفاصل، تلك الشهادة التي سافر من اجلها قبل عامين. ولم يكن والده الجراح المتخرج من بريطانيا نفسها يتوقع أن يحدث هذا حتى في أسوأ كوابيسه.

اتجه الأردنيون تاريخيا وتقليديا لبريطانيا للتخصص في الجراحات بمختلف انواعها واتجهوا كذلك للولايات المتحدة للتخصص في الأمراض الباطنة وفروعها منذ مايقرب من العشرين سنة. فجولة بسيطة لقراءة يافطات العيادات الطبية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك على هذا الأمر: الجراحة في بريطانيا والباطنية في الولايات المتحدة.  وهناك متخصصون من دول اخرى،  ولكن النمط واضح.

تطلب مؤسسات التعليم الطبي المتقدم في بريطانيا من خريجي الدول الأخرى أن يجتازوا امتحانا باللغة الإنجليزية وهو مطلب مشروع، وامتحانا أخر لقياس مدى الكفاءة الطبية يسمى امتحان ال PLAB   . يعقد هذا الامتحان الأخير في دول عدة في الشرق الأوسط وتعقد بعض أجزائه في بريطانيا نفسها، وهو أمر مكلف ولكنه مشروع.

وتطلب مؤسسات التعليم الطبي المتقدم في الولايات المتحدة كذلك اجتياز امتحان طبي من ثلاثة أجزاء يدعي USMLE، يعقد ثالثها دوما في الولايات المتحدة. ولهذه الامتحانات كلفة كبيرة ولكنه مطلب مشروع كذلك..

يعتمد التعليم الطبي المتقدم للتخصص في الولايات المتحدة الأمريكية علي ما يسمى ببرامج الإقامة المبرمجة المتدرجة، والتي يتم فيها إلحاق الطبيب الراغب بالاختصاص بعد أن يجتاز الامتحانات المطلوبة للقبول وبعد أن يتم اختياره من خلال برنامج القبول الوطني للولايات المتحدة، يتم إلحاقه بمستشفي يمكث فيه طوال مدة تخصصه إلى أن يتخرج وعليه اجتياز امتحانات سنوية يفصل من البرنامج في حالة رسوبه في احدها في أي سنة. بعد أن ينهى الطبيب مدة الإقامة يتقدم لإمتحان البورد الأمريكي فإن اجتازه أصبح اختصاصيا وإن لم يجتزه بقي طبيبا مؤهلا.

كان التعليم الطبي المتقدم في بريطانيا تقليديا يعتمد على مبدأ " التتلمذ" أو مبدأ "صبي المعلم".  إذ بعد أن يجتاز امتحان الكفاءة يقوم الطبيب الراغب في التخصص " بتدبير" مكان للتدرب لمدة شهر أو ما شابه ذلك.. وعادة ما يتم هذا الترتيب عن طريق أساتذة الجامعات أو المعارف. المهم أنه وخلال هذا الشهر المسمى تقليديا "بشهر الإلحاق" على الطبيب البحث عن مكان للتدرب أو ما يسمى في بريطانيا وظيفة. يتم البحث عن الوظائف في المجلات الطبية البريطانية، ويتم التقدم لها، ويرفض من يرفض ويدعى للمقابلة من يدعى ويأخذ الوظيفة احد المتقدمين. عادة ما تكون الوظائف لمدة ستة شهور واقلها لمدة سنة. على الطبيب أن يعيد الكرة من البحث والتقدم والمقابلة في نهاية هذه المدة وقد يجد الوظيفة المناسبة أو قد لا يجد.  ولكنه في اغلب الأوقات يبحث عن وظيفة في مستوى أعلى من تلك التي كان فيها، ويبقى كذلك إلى ان يحقق الشرط الزمني لعدد السنوات اللازمة للتقدم لإمتحان الزمالة البريطانية. خلال مدة التدرب لا تجرى امتحانات للانتقال من سنة لسنة او من مستوى لمستوى أعلى، أي أن التدريب ليس مبرمجا ولا متدرجا. عندما يعتقد الطبيب بينه وبين نفسه انه قد وصل للمستوى العلمي المطلوب من التحصيل يتقدم لإمتحان الزمالة البريطانية وقد ينجح فيصبح اختصاصيا وقد لا ينجح فيعيد الامتحان إلى أن ينجح فيه.

أدرك القائمون على التعليم الطبي المتقدم في بريطانيا قبل عدد من السنوات أن التدريب على الطريقة الأمريكية يضمن أن لا يصل لإمتحان الزمالة إلا من كان مؤهلا بعكس النظام البريطاني الذي لا يضمن ذلك فقرروا أن يغيروا الطريقة لتصبح كالنظام الأمريكي. ولتحقيق ذلك استنبطوا ما يعرف حاليا بالوظائف المرقمة. فإن أراد الطبيب التدرب للحصول على الشهادة عليه الإلتحاق بوظيفة ذات رقم. وفي نفس الوقت بقيت الوظائف العادية الغير مرقمة. صاحب ذلك تغيير في متطلبات الشهادة فبعد أن كانت من جزأين أصبحت أربعة، يمكن أجراء الثلاثة الأولى منها في أي مكان في العالم ولكن الجزء الرابع لا يجرى الإ في بريطانيا ومن خلال وظيفة ذات رقم، وهنا بدأت أول المشاكل فالحصول على هذه الوظيفة أمر في غاية الصعوبة: بمعنى أن الطبيب قد يمكث في بريطانيا ثلاث سنوات متنقلا من وظيفة لأخرى ثم يصل لوقت لا يتمكن فيه من الحصول على الوظيفة المرقمة، فماذا يفعل؟ لا يمكنه أن يتقدم للجلوس للامتحان وعلية العودة لوطنه دون تحقيق أي شيء. كان بعض الأطباء القلائل محظوظين فحصلوا على وظيفة ذات رقم وبقي الآخرون يحاولون ولكنهم لم يكونوا يعلمون بأن الأعظم قادم.

بعد توسعة الإتحاد الأوروبي أعطي المواطنون من الدول الجديدة المنضمة للإتحاد الأولوية في هذه الوظائف، فالأولوية للبريطانيين ومن ثم لأطباء دول الإتحاد القديمة والجديدة وعليه أصبحت فرص أبنائنا شبه مستحيلة. قالت السلطات البريطانية أن بإمكان الأطباء من الجنسيات غير أصحاب الأولوية الالتحاق إن كانوا يحملون "الفيزا للمؤهلين تأهيلا عاليا"، عليك أن تسجل 75 نقطة من 100 نقطة عند التقدم لها ، لا اعتقد أن أحدا من أطبائنا الراغبين في التخصص سيتمكن من اجتياز حاجز الستين نقطة، فالنقاط  تعتمد على أمور لا يمكنهم تحقيقها.

اصبح الوصول لمراكز التدرب في الولايات المتحدة الأمريكية صعب للغاية بعد احداث أيلول 2001 و التدرب في بريطانيا شبه مغلق، والفرص الجديدة كمثل استراليا توقفت بعد أن أصدرت الحكومة الحالية فيها قرارا يقضي بأن التدرب هو للأستراليين فقط في برامج الإقامة..... ولابد أن يمتد هذا التوجه شمالا و جنوبا في تلك الدول التي يوجد طلب كبير على التعلم فيها.

لنعد للطبيب إياد إذن، فبعد أن مكث في بريطانيا سنتين تنقل فيها هنا وهناك، تقدم بطلب لوظيفة ذات رقم. وكم كان سعيدا عندما علم أنه قد تم وضعه في قائمة صغيرة من المتقدمين وأن المسئولين سيستدعونه للمقابلة بعد أسبوع أو ما شابه.  بعد عشرة أيام اتصل به من يبلغه بالاعتذار عن المقابلة "لأنه قد صدر قرار بالأمس يعطي الأولوية لمواطني الإتحاد الأوروبي". راجع المجلس الطبي البريطاني دون جدوى، ثم راجع الملكية الأردنية وعاد....

أن ما حققه الأردن في مجال الخدمات الطبية والعلاجية بني على أكتاف أطباء أكفاء حصلوا على أحسن الشهادات في مختلف التخصصات. هل سيأتي وقت لن نستطيع فيه إدامة هذه النهضة الطبية لعدم توفر الكوادر المؤهلة تأهيلا عاليا؟ هل لن نجد الجيل المؤهل من الأطباء للحلول محل الأطباء الحاليين بعد أن يكونوا قد تقاعدوا؟ هل سنلجأ لإدامة هذه الصناعة على أكتاف مستويات اقل مما نرغب؟ وهل نضحي بم حققناه أم أن علينا التفكير فيما يجب علينا عمله لتلافي ذلك قبل أن يفوت الأوان؟

تعاني بعض القطاعات الصحية الأردنية من نقص حاد في الكوادر الطبية المؤهلة تأهيلا عاليا، وهذا اوضح مايكون في مستشفيات وزارة الصحة نظرا لإستنكاف الكثيرين نظرا لتدني الرواتب. أن الكثيرين من الملتحقين ببرامج الإقامة يرفضون التقدم لإمتحان المجلس الطبي الأردني لعلمهم بعدم قدرتهم على اجتيازها، ويفضل هذا البعض البقاء موظفا تحت مسمى المقيم المؤهل. أن محاولة حل المشكلة بزيادة عدد الملتحقين ببرامج الإقامة عن طريق تخفيض معدل القبول فيها قد يؤدي لإلتحاق أعداد اكبر ولكن من أي مستوى؟  هل الهدف تعبئة الشواغر أم رفع مستوى الخدمة الطبية؟ ولابد أن تعاني كليات الطب الجديدة - والتي ستقوم-  من نقص في ا|لأساتذة ستحاول حله مؤقتا على حساب الكليات القائمة، فمن اين ستتدبر هذة الكوادر؟

توجد في الأردن برامج إقامة لتخريج المختصين في الحقول الطبية التخصصية المختلفة بعضها عمره 20 سنة وبعضها غض. هناك برامج في المستشفيات الجامعية والحكومية والخاصة والعسكرية. بعضها مبرمج وبعضها غير مبرمج. بعضها أكاديمي وبعضها مهني. بعض الأطباء يتدرب في مستشفيات مؤهلة وبعضهم في مستشفيات ابعد ما تكون عن القدرة. بعضهم يشرف عليه اختصاصيون أكفاء والبعض الأخر يمكن القول بأن الفرق العلمي بين المعلم والمتعلم قليل. بعض البرامج أجيز من قبل المجلس الطبي بعد التأكد من أهليتها والتزامها بالمعايير،  وبعضها أجيز أو رفض لإعتبارات أخرى.

لابد أن نتدبر الحل الآن، ولقد أثبتنا في هذا البلد قدرتنا على التخطيط والتدريب وعلى إيجاد الحلول للمشاكل قبل وقوعها. أن ماهو موضع النقاش أمر بالغ الأهمية وقد استثمرنا فيه استثمارا كبيرا وعلينا عدم التفريط به.

لابد من توحيد كل هذه الجهود في برنامج وطني واحد قوي يتشارك الجميع فيه ويعملون على نجاحه. برنامج لا يلتحق به إلا الأكفاء تساهم كل القطاعات الطبية في إنجاحه دون أن يكون ملكا لأحد ويعمل الجميع على إنجاحه. يتدرب من خلاله  المتدربون في كل المؤسسات الطبية الأردنية، تلك المؤسسات التي يجب أن تخضع لمعايير جدية للاعتماد دون مراعاة أو هوادة، ويشارك بالتعليم والتدريب فيه الأكفاء من المختصين دون حسد أو مجاملة.  عندئذ نستطيع أن نعمل على تأهيل وإنتاج الإختصاصي ذي المستوى المتقدم ولا نعود لنفكر إلى أين نذهب للإختصاص ولا نضع أبناءنا في ظروف صعبة وحرجة ومحبطة. يبقى ان نقول أن التعرض للخبرة الأجنبية أمر مطلوب وضروري وهو موضوع سهل التدبير من خلال الزمالات التي لا يزال بابها مفتوحا او على الأقل مواربا، ويمكن ان تتم عن طريق الاتصالات الشخصية والمؤسسية.

إنني أوجه الدعوة هنا للمعنيين والمسؤولين القائمين على نهضة هذا الوطن بتشكيل لجنة وطنية لبحث الموضوع، لجنة موضوعية ممثلة للقطاعات ذات العلاقة، تضع الأسس والمبادئ لإنشاء هيئة او مجلس وطني لبرامج الإقامة يعنى بهذا الأمر ويعمل على توفير الظروف العملية والتطبيقية لإنجاحه.


د.وليد المعاني وزير صحة وتعليم عال اسبق

Featured Post

PINK ROSE