أما المرضى فلا بواكي لهم:
حديث في المسؤولية الطبية ووجوب المساءلة
  
أ. د. وليد المعاني

يزداد عجبى كل يوم من االمنظرين وقدرتهم على لي الحقائق، وافتقارهم- ولو لمرة- لحل يضعوه لمشكلة يطرحوها. وأعجب كذلك من اصرارهم على تعقيد الأمور بربطها بجزئيات ليست من صلبها. وأقدر في نفس الوقت الجهود التي يبذلها أولئك اللذين يدركون معاناة المرضى، محاولين وضع الحقائق أمام الناس لحشد الرأي في القضايا الإجتماعية التي تعود على الجميع بالخير.


هذا مدخلي لحديث جديد في موضوع المسؤولية الطبية، هذا الأمر العصي الذي مازال يبحث منذ اواخر التسعينيات في القرن الماضي، ويتم التجاذب فيه في الندوات المغلقة وعلى صفحات الجرائد.  

فالمسؤولية (بوجه عام)  هي حال أو صفة من يسأل عن أمر تقع عليه تبعته. وتطلق (أخلاقيا) على التزام الشخص بما يصدر عنه قولا أو عملا، وتطلق (قانونيا) على الإلتزام بإصلاح الخطأ الواقع على الغير طبقا لقانون. وفي اللغة، جاء في لسان العرب أن المساءلة هي المطالبة بالحقوق أو الوعود." قال تعالى : " كان على ربك وعدا مسؤولا"، اراد قول الملائكة: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم " (الآية). وقال ثعلب: معناه وعدا مسؤؤلا انجازه، يقولون ربنا قد وعدتنا فأنجز لنا وعدك". 

يخضع الأطباء الأردنيون للمساءلة عن الأخطاء التي ارتكبوها خلال ممارساتهم لمسؤؤلياتهم أن كانوا يعملون في وزارة الصحة أو الخدمات الطبية الملكية أو الجامعات. ونظريا يخضع أطباء القطاع الخاص للمساءلة من نقابتهم التي تحدد اجورهم وترعى شؤونهم.

فما دام الأمر كذلك ، يتساءل البعض عن مدى حاجتنا لقانون للمسؤولية الطبية ( ويقصدون قانونا للمساءلة الطبية)، وعدد الحالات التي قد تقتضى المساءلة محدود. ويقولون أن دولة كالولايات المتحدة مضطرة لمساءلة الأطباء لأنهم يرتكبون أخطاء تعد بمئات الألوف. وينسون أن الأطباء والعاملين في الحقل الصحي وإدارات المستشفيات في الولايات المتحدة مجبرة بحكم القانون بالتبليغ عن أية هفوة، حتى لو كانت الهفوة سقوط مريض عن سريره، أو ممرضة لم تتأكد وتشاهد بعينيها من أن المريض قد تناول حبات دوائه، أو أن الطبيب لم يسأل مريضه أن كان يعاني من مرض السكري قبل أن يصف له دواء الكورتيزون. لست أدري لو أننا طبقنا هذه المعايير هنا فما هو عدد الحالات التي سنضطر للإبلاغ عنها وهل سيبقى العدد محدودا بأولئك الذين نسي الأطباء "مقصات أو شاشا في بطونهم". أم أن قلة الأخطاء هنا مقارنة بما يجري في الولايات المتحدة (مع أخذ عدد السكان في الأعتبار) يعود لأن الأطباء السيئين في الولايات المتحدة كثيرون، بمعنى أن الأطباء لدينا لا يخطئون.

ولكن هل يستطيع وزير الصحة من باب ولايته العامة على الصحة حسب الدستور أن يستدعي طبيبا من غير أطباء وزارة الصحة لمساءلته؟ وهل من الممكن أن يقبل العقل المتوسط الذكاء أن يصدق أن نقابة منتخبة هدفها رعاية شؤون منتسبيها وتوفير المكاسب لهم ستقف ندا لهم؟

لا أحد (من الأطباء أو المرضى على حد سواء)  يدعي اطلاقا بأن قانون العقوبات الأردني عاجز عن البت في أي قضية تعرض عليه وأن يحكم فيها بالتعويض المناسب، ولم يدع أحد من الأطباء أو غيرهم بأنهم لا يخضعون للمساءلة ككل الناس. وفي نفس السياق لم يتقدم أحد ليقول أن كل الناس علماء في الطب يميزون بين الخطأ والضرر والمضاعفة الطبية.

هل لدينا تشريع من أي نوع يتحدث عن الأخلاقيات الطبية؟ عما يجوز وعما لايجوز؟ وعما هو مسموح لطبيب أن يمارسه دون غيرة؟ هل يجوز لجراح ألأعصاب أن يعالج الدوالي الوعائية؟ وهل يجوز للطبيب الباطني أن يجري عمليات تنظير؟ وهل وضع جهاز تخطيط قلب في غير عيادات أخصائي القلب أمر جائز؟ ( على الرغم من أن كل هؤلاء مارسوا هذه الإجراءات في فترة تدربهم للتخصص). وما حكم من قام بذلك؟

هل من الجائز أن يتساوى خريج اليوم مع زميله ومن له خبرة عشرين سنة بأن يدعي كلاهما أنه استشاري؟ وهل يجب على المريض أن يطلب من الطبيب سيرة ذاتية للتأكد من حقيقة كونه استشاريا؟

هل من المقبول انتظار مريض في قسم طوارىء ساعات دون أن يقوم أحد بتحديد مدى حرج حالته ومدى السرعة اللازمة في التعامل معه؟ وهل من المعقول أن يقوم ذوو المريض في وحدة عناية مركزة "بتشفيط" الإفرازات من فتحة رغامية لمريضهم لأن الممرضة مشغولة مع مريض اّخر؟ أم أن الأساس أن يكون لكل مريض ممرضة في هذا النوع من الوحدات؟  

 هل يجوز إجراء قسطرة لشرايين القلب في عيادة دون أن يكون هناك غرفة عمليات جاهزة ينتظر فيها جراح قلب للتدخل جراحيا أن حصل مكروه خلال عملية القسطرة؟ وهل يجوز التوليد وإجراء العمليات النسائية في عيادات؟ ماذا سيكون الموقف عليه أن حدث نزف شديد أو ثقب الرحم خلال عملية "التنظيفات"؟

لماذا وعندما نتحدث عن التعويضات لا نورد مثالا إلا الولايات المتحدة، مع أن كل، إن لم يكن معظم الأطباء اللذين كتبوا في الموضوع تخرجوا من دول اخرى فيها امثلة أجود؟ لماذا لايكتبون عن التجربة التى مروا بها انفسهم عندما كانوا مشتركين في جمعيات الحماية الطبية في تلك البلدان (ضرورة اساسية للسماح بالممارسة الطبية في ذلك البلد)؟ ماهي المبالغ التي كانوا يدفعونها سنويا؟ في بريطانيا مثلا ثلاث جمعيات هي اتحاد الدفاع الطبي (Medical Defense Union)، وجمعية الحماية الطبية (Medical Protection Society)  (200،000  مشترك) ، و اتحاد الدفاع عن الأطباء وأطباء الأسنان في اسكتلندا (Medical and Dental Defense Union of Scotland). ولايشكل هذا الموضوع مشكلة أو هاجسا في المملكة المتحدة.

قانون المسؤولية الطبية ليس موجها ضد الأطباء أو المستشفيات أو الجسم الطبي المساند بكامله، بل هو حماية لهؤلاء جميعا ومن قبلهم هو حماية للمرضى.

 فعندما يتم تعريف الخطأ الطبي ويتم تعريف المضاعفة الطبية في القانون، فإن هذا يحمي الأطباء من الشكاوى الكيدية، وعندما يقرر في القانون أن واجب الطبيب هو بذل اقصى الجهد والعناية بالمريض، فإن هذا ينفي المفهوم المتداول أن واجب الطبيب هو شفاء المريض. وكذاك الأمر بالنسبة للمستشفى، فواجبه بذل اقصى الجهد لسلامة المريض وليس شفائه.

وعندما يحدد القانون مسؤولية الطبيب فإنة يميز بين الطبيب العامل في عيادة والطبيب العامل في مستشفى عام. فالأول مسؤول مسؤولية كاملة عما يقوم به، في حين أن الأخير تتحمل المسؤولية عنه مؤسسته أو يتحملاها بالتضامن. والسبب في ذلك أنه في الحالة الأولى عرف المريض بالطبيب فقصده هو شخصيا، أما في الحالة الثانية فقد قصد المستشفى (قسم الطوارىء مثلا) ولم يكن لديه مانع أن يعالجه أي من الأطباء العاملين هناك، فالعقد كان مع المستشفى وليس الطبيب.

وعندما يلنزم الطبيب بما تعلمه أو اختص به، ولم يتجاوزه الى الإختصاصات الأخرى، اليس في ذلك حماية له من الوقوع في الخطأ؟ ولماذا وجدت الدول المتحضرة ضرورة لتحديد ما يمكن أن يقوم به أي طبيب وما لايمكنه ممارسته؟ بل لماذا تصر بعض الدول المتقدمة على ضرورة التأكد من أهلية الطبيب العلمية كل خمس سنوات؟ اليس في ذلك حماية له وللمرضى؟.

يجب أن لا ينظر لقانون المسؤولية الطبية على أنه قانون للعقوبات أو جزء منه، وإنما هو عقد إجتماعي بين الأطباء والمؤسسات الطبية والعاملين فيها من جهة، وبين المرضى (المواطنين) من جهة أخري، فهو أولا، يحدد الواجبات المنوطة بأي منهم وينظم العلاقة بينهم ، وثانيا، يبين طرق حل الخلاف إن وقع.

في ندوة المسؤولية الطبية التي عقدت في 8/6/2008 بدعوة من المجلس الصحي العالي، دار معظم النقاش في التعريفات القانونية وأقحم موضوع توقيف الأطباء. وطالب بعض النقابيين بأن تكون نقابة الأطباء مسؤولة عن تطبيق كذا تشريع من خلال تعديل قانونها، واقترحوا صندوقا للتكافل يتحمل من خلاله اللذين لم يرتكبوا خطأ، التبعات المالية لأولئك اللذين ثبت عليهم الخطأ وطولبوا بالتعويض. لقد كان من المحزن ألاّ يعترف هؤلاء النقابيون وأنصارهم بأن نقابتنا العتيدة لم تقم بواجبها في تنظيم المهنة في مجالات واجبات الطبيب وأخلاقيات المهنة، وكان من المحزن أكثر أنهم لايريدون لغيرهم (وزارة الصحة ومؤسساتها) أن تقوم بواجبها الذي اناطه بها قانون الصحة العامة وقانون المجلس الصحي العالي. لقد كان المؤيدون لهذا القانون يتحدثون على استحياء وكأنهم يأتون بجرم، يحاولون أن يقنعوا الحاضرين، بموضوعية وتجرد، بأن هذا القانون هو للصالح العام دون جدوى. وانفض الإجتماع بتكليف لجنة بالنظر في الأمر.

هل سننتظر أكثر مما انتظرنا؟ وهل ستعقد ندوات نتناقش فيها مجددا؟ أم أن المنطق يقول أن مشروع قانون للمسؤولية الطبية يحتوي على ما يلي يجب صياغته وبسرعة:
أولا: تعريفات للخطأ الطبي والمضاعفة الطبية والضرر.
ثانيا: تحديد مسؤوليات مقدمي الخدمة الطبية ( الأطباء والمؤسسات الطبية والعاملين فيها) دون لبس.
ثالثا: بيان مسار أي شكوى يتقدم بها أي شخص يعتقد بوقوع الخطأ معه أو الضرر عليه:
1)                          تحدد الجهة التي تقدم لها الشكوى.
2)        تنظر الجهة المذكورة اعلاة في الشكوى عن طريق لجنة دائمة تتضمن خبراء طبيين وقضاة ، فأن تبين أنها كيدية أو تقع ضمن المتعارف عليه من المضاعفات ردتها،
3)                          إن تبين للجنة أن للشكوى أساس، تحاول اللجنة التحكيم بين أطراف النزاع.
4)                          أن لم يمكن التوصل لتسوية بين الطرفين، يحال الأمر للقضاء للبت فيه حسب القوانين النافذة.

No comments:

Featured Post

PINK ROSE