التعليم العالي المجاني وجدلية تمويله

13/04/2016 - 2:15pm
طلبة نيوز- أ. د. فايز خصاونة*
أطل علينا الزميل والأكاديمي المخضرم معالي الدكتور وليد المعاني، بمقالين في "الغد" الغراء، يدعو فيهما إلى مجانية التعليم العالي، ويقدم مسوغات عديدة تبرر ما ذهب إليه، على رأسها العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
وتوقعت أن ينبري بعض المهتمين بشأن التعليم العالي لمناقشة ما طرحه معاليه تأييدا أو تحليلا أو اعتراضا. ولكن لم أقرأ لتاريخه أيا من ذلك؛ لا من الوسط الأكاديمي ولا من المهتمين بالشأن العام. وقد يفسر المتابعون هذا السكوت تفسيرات مختلفة، أحدها أنه توافق مع الطرح أو إقرار به، مما دعاني أن أتناول مشروع الدكتور المعاني (مشروع مجانية التعليم العالي) بالتحليل والتعليق، وخصوصا أنه سيكون مطروحا في المؤتمر الوطني الذي تنظمه اللجنة الوطنية لتطوير الموارد البشرية الشهر المقبل.
تأتي الدعوة إلى مجانية التعليم العالي في ظل الحراك الطلابي في الجامعة الأردنية، المعارض لرفع رسوم البرنامج الموازي وبرامج الدراسات العليا، والذي تصاعد مؤخرا. وهي دعوة تدغدغ عواطف الطلبة وجيوب أولياء أمورهم، بل هي دعوة تحظى في ظني بشعبية عارمة، تغلق الباب أمام أي اعتراض أو نقد يوجه إليها. لكن الحرص على مستقبل الأجيال القادمة يقتضي أن لا تستند قراراتنا على الشعبية فقط، بل أيضا على التحليل الذي يضيء لنا الطريق للاختيار الذكي من بين بدائل تُغَلّب الصالح العام. ولهذا، فإني استميح القارئ عذرا وأدعوه لمشاركتي بتفكير معمق في حيثيات هذا المشروع، وما تترتب عليه من تبعات يمكننا تصورها مسبقا قبل أن تظهر آثارها بعد تطبيقها.
من المسلم به أن للتعليم العالي في الجامعات العامة (وأفضل تسميتها بهذا الاسم تمييزا لها عن الجامعات الخاصة، رغم أننا درجنا على تسميتها في تشريعاتنا وأدبياتنا بالجامعات الحكومية تارة، والرسمية تارة أخرى) كلفا لا بد لجهة ما أن تتحملها. وقد جاء في مشروع مجانية التعليم العالي أن هذه الكلف سوف تغطى من مصدرين: خزينة الدولة؛ ورسوم تُفرض على وقود السيارات. وحقيقة الأمر أنهما كليهما من منبع واحد، هو الشعب، أي إن فئات الشعب كافة سوف تشارك في تغطية هذه الكلف. وهنا يجب أن نتوقف قليلا ونفكر في تبعات هذا الطرح، ونستعرض بعض الحقائق ذات الصلة.
أولا: يشكل طلبة الجامعات نسبة محددة من شريحتهم العمرية، وهي حاليا تراوح حول 32 %، علما أن الرأي السائد يصور لنا أن الإقبال على التعليم الجامعي أكبر مما يجب أن يكون عليه، وأن كل الاستراتيجيات التي وضعت للتعليم العالي كانت تنادي بتخفيض نسبة الإقبال على التعليم العالي لصالح التعليم التقني والتدريب المهني. أي إننا ننادي بأن تنخفض النسبة إلى أقل من ذلك. وما يهمنا في الأمر أن مشروع مجانية التعليم العالي يحمل الكلف لفئات الشعب كافة، بينما لا يستفيد من ذلك سوى ثلث أبنائه وبناته في أبعد تقدير. صحيح أن مخرجات التعليم العالي لا تنحصر في المتخرجين منه، بل إن المخرجات تشمل أيضا نتائج البحوث والدراسات التي تجريها الجامعات، وصحيح أن المتخرج سوف يوظف كفاياته ومهاراته التي اكتسبها في دراسته الجامعية لخدمة المجتمع وإذكاء التنمية الاقتصادية فيه، إلا أن هذا التوظيف سيكون مأجورا وذا مردود مادي يعود على صاحبه أولا وآخرا. وهذا يطرح تساؤلا مهما يتعلق بنسبة المشاركة هذه؛ حول المبررات التي تسوغ لنا تحميل جميع شرائح المجتمع كلفة خدمة لا يستفيد منها إلا الثلث في أبعد الحدود.
ثانيا: طالما أن الشعب بجميع أطيافه وشرائحه سيكون شريكا في تحمل الكلفة، فكيف سنقرر من يجوز له أن يستفيد من الدراسة الجامعية؟ إن مجرد المشاركة الشمولية في تحمل الكلف ترتب للجميع حقوقا متساوية يحق لهم أن يطالبوا باستيفائها. وعندما نضع أسسا وضوابط للتعامل مع هذه الحقوق، لا بد أن تستند في جوهرها على الجدارة لتكون مستساغة عند الشعب. ولنفترض جدلا أننا توافقنا على أداة لقياس مستوى الجدارة، سواء كانت هذه الأداة هي امتحان "التوجيهي" كما نعرفه الآن أو أي امتحان وطني مقنن نستبدله به؛ ولنفترض أيضا أننا توافقنا على تحديد مستوى الجدارة الذي لا بد للطالب أن يبلغه ليسمح له بولوج ساحة الدراسة الجامعية. ولتبسيط الحديث وتوضيح الصورة، دعونا نفترض جدلا أن الأداة هي امتحان "التوجيهي" كما نعرفه، وأن المعدل الحدي الذي يتقرر بموجبه جواز الالتحاق بالدراسة الجامعية من عدمه هو 60، عندها يصبح لكل طالب حصل على معدل 60 أو أعلى حق في مقعد جامعي مجاني يطالب به تحت شعارات المساواة الدستورية ومعايير العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وهذا يعني حكما أننا قللنا الطلب على الدراسة في الجامعات الخاصة، سواء كانت ربحية أم غير ربحية. وربما أن هذا هو هدف بحد ذاته عند البعض، إلا أن ذلك ليس موضوعنا الآن. المهم لنا الآن أن هذا الأمر يجعل الإقبال على الجامعات الخاصة محصورا فيمن لم يحصل على التخصص المطلوب في إحدى الجامعات العامة تنافسيا، وهو بذلك يرفع عدد الطلبة الذين سيلتحقون بالتعليم المجاني بمقدار من سيتحول من الدراسة برسوم عالية إلى الدراسة المجانية. ولا نستطيع أن ننكر عليهم ذلك طالما أنهم قد حققوا المعدل الحدي. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن التحول للتعليم المجاني سيحدث خرقا في قدرتنا على التخطيط لتنمية مواردنا البشرية بما يتناسب مع رؤيتنا الإنمائية الاستشرافية، لأننا سنفقد السيطرة على أعداد المقبولين في مختلف التخصصات الجامعية، وخصوصا تلك التي تدرس في جامعات خاصة برسوم مرتفعة. فعلى سبيل المثال، إذا كان عدد الطلبة الذين حصلوا على معدل 80 فما فوق في سنة ما هو 10 آلاف طالب وطالبة، فإنهم جميعا سيطالبون بدراسة تخصصات الهندسة والصيدلة وغيرها مما يتطلب معدل 80 حدا أدنى، وسنخلق مشكلة مجتمعية تتمثل في ضغوط قوية لاستيعابهم جميعا طالما أن الدراسة مجانية. سنلجأ عندها إلى التنافس المتكافئ لاختيار الأجدر من بينهم، علما أننا لم نتقن عملية التنافس المتكافئ تاريخيا. ولأن البديل هو الدراسة في الجامعات الخاصة برسوم مرتفعة، أو جامعة أجنبية برسوم أعلى، فإن الضغوط المجتمعية سوف تصل درجة لا تطاق. وفي المحصلة، سوف تنخفض نسبة الطلبة الذين سيلتحقون بالجامعات الخاصة مقارنة بالنسبة الحالية، علما أن الجامعات العامة مكتظة أصلا  فوق معايير الاعتماد. وهذه معضلة إضافية، لأن جامعاتنا العامة غير قادرة على التعامل مع التحول المتوقع. ولا يستقيم الأمر بأن نخفض المعدل الحدي للجامعات الخاصة بالقول إنه يجوز لهم أن يقبلوا طلبة بمعدلات أقل من 60 في مثالنا الافتراضي، لأنه في الوقت الذي نقرر أن المعدل الحدي للجامعات الخاصة هو 55 مثلا، يصبح لزاما علينا أن نستوعب من حصل على تلك المعدلات في التعليم المجاني إذا التزمنا بالمساواة وتكافؤ الفرص. ويندرج هذا الأمر على موضوع دراسة بعض طلبتنا في جامعات أجنبية في تخصصات لم يقبلوا فيها محليا.
ثالثا: إن مجانية التعليم العالي تعني حكما أن الجامعات العامة ستكون مقيدة في كل أمورها بما تخصصه لها خزينة الدولة في قانون الموازنة. وبهذا ستسقط ورقة التوت عن كل ما تبقى من شعار استقلالية الجامعات. وأتوقع أننا سوف لا نشعر بتغيير كبير لأن أمر استقلالية الجامعات ما كان يوما إلا شعارا خاويا خاليا من المضمون. فليس ذاك هو المقلق، بل المقلق أن لنا تجربة مريرة مع المالية العامة في موقع التعليم العالي على سلم أولوياتها الإنفاقية. ومهما وضعنا من نظريات وضوابط على أي رسوم جديدة مخصصة للجامعات، فإنها لن تختلف عما كانت عليه قبل إلغائها، وسيبقى القرار بيد مديرية الموازنة في وزارة المالية، وأكبر عبرة لنا في هذا المجال هي في قراءة الصورة في الدول العربية المجاورة، وخصوصا مصر وسورية، مستثنيا بذلك الدول العربية النفطية لاعتبارات لا تحتاج إلى تفسير.
رابعا: كان لنا تجربة ناجحة في موضوع تمويل التعليم العالي. وأثبتت الأيام في العقود الثلاثة الأولى من عمر التعليم العالي في الأردن أنها كانت تجربة ناجحة وفعالة، وضعت التعليم العالي الأردني رغم حداثته في مقدمة الدول العربية والإقليمية، وحققت قدرا عاليا من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وقد قامت تلك التجربة على أساس تقاسم الكلفة بين الشعب والطالب الملتحق بالجامعة. وكان التقاسم يستند على سياسة واضحة، هي الإقرار بأن المستفيد من خدمات الجامعة طرفان: طرف مباشر وهو الطالب؛ وطرف غير مباشر وهو الشعب أو المجتمع. وتمثلت مساهمة الطرف المباشر في الرسوم الجامعية، بينما تمثلت مساهمة الطرف غير المباشر في حزمة من الرسوم المخصصة للجامعات وحصة من الإيرادات الجمركية طالت معظم شرائح الشعب ونشاطاته الاقتصادية. ثم بدأنا نعبث بهذه السياسة التشاركية عندما ارتفعت أصوات تنادي بأن على الجامعة أن تستوفي كامل كلفة التعليم من الرسوم الجامعية. لقد كان ذلك تحولا جذريا في أهم ركن من أركان سياسات التعليم العالي، وكان يطلق عليه (Full Cost Recovery)؛ بمعنى استرداد كامل الكلفة من الرسوم الجامعية. وكان من بين المنادين بهذا التحول قامات وطنية مشهود لها في ميادين الخدمة العامة، ولأنها كانت في موقع صنع القرار، فقد تبنت ذلك التوجه مقتنعة بصواب رأيها منذ حوالي منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فآلت الأمور إلى ما آلت إليه الآن؛ إذ أصبحت المخصصات المالية المحولة إلى الجامعات سنويا أقل من 7 % من الإنفاق الإجمالي في العشر سنوات الماضية، باستثناء ما تم تحويله من المنحة الخليجية في آخر سنتين. أي إن تقاسم الكلفة الذي كان سائدا قبل مرحلة التحول في السياسة التشاركية، قد انخفض من المناصفة إلى أقل من العُشر. وفي واقع الحال، فإن الأمر أشد مرارة من ذلك، إذ إن الرسوم التي تتحملها الحكومة عن طلبة المكرمتين الملكيتين لأبناء المعلمين والجيش والأجهزة الأمنية (وهم يشكلون 25 % من المقبولين تنافسيا) لا تغطي إلا 40 % من الكلفة الحقيقية لو طبقنا مفهوم استرداد الكلفة. وبهذا الحساب، فإن الحكومة تبقى مديونة للجامعات بعد كل تلك التحويلات، ناهيك عن أمر النسبة الباقية (75 %)، وناهيك عن عبء آخر يتعلق بتحميل الجامعات الكلفة الكاملة لتعليم أبناء المتقاعدين من الأجهزة الأمنية الذين يتقاعدون من الخدمة بمعلولية جسيمة.
إن للسياسة التشاركية في تحمل كلفة التعليم مبررات وجيهة جدا، لأنها تستند على أن الطالب الذي يتأهل للالتحاق ببرنامج جامعي يدفع رسوما تغطي نسبة محددة من تلك الكلفة، بينما يتحمل المجتمع النسبة المتبقية منها، وذلك لأن الطالب هو المستفيد المباشر بينما المجتمع هو المستفيد غير المباشر؛ فلا نحمل المجتمع كل الكلفة كما يدعو مشروع التعليم المجاني، ولا نحمل الطالب كل الكلفة كما يدعو مشروع استرداد الكلفة الكاملة. وإذا سألنا عن النسبة العادلة التي ينبغي استيفاؤها من الطالب، فهي تحتمل الاجتهاد على ضوء عوامل عديدة ومتغيرة لا يتسع المجال للخوض فيها الآن. ولكن لأنها من ركائز سياسات التعليم العالي، فإن الطرف صاحب الاختصاص في ذلك هو مجلس التعليم العالي، وعليه أن يضع لها سياسة واضحة التزاما بما نص عليه القانون.
يبدو لي في ختام هذا التحليل أن مشروع مجانية التعليم العالي جاء نتيجة التفكير في إلغاء البرنامج الموازي إلغاءً فوريا أو متدرجاً، والبحث عن بدائل لتعويض الجامعات عن إيراداته. وهذا يعني ضمنا أن البرنامج الموازي شر مستطير لا بد من الخلاص منه بأي طريقة ممكنة. ولكن هل هو فعلا كذلك؟ لا شك أن له سلبيات جمة، خصوصا بالصيغة التي أصبح عليها. لكن التفكير المعمق يجد له بعض الإيجابيات سآتي عليها في مقال لاحق. وأكتفي بالقول هنا إن نظرة شمولية للمشهد كله تكشف لنا أن منهجية "الموازي" لم تعد محصورة بالصورة النمطية في أذهان الكثيرين منا. فما تفشي الدروس الخاصة في المراكز الثقافية والأكاديميات المنتشرة إلا نمط متطور (وخبيث) من أنماط الموازي، حيث يتلقى طلبة الجامعات "دروس تقوية" في مواد جامعية، والمدرسون هم أنفسهم مدرسو الجامعات. فإذا كان الهدف هو تدبير إيرادات بديلة، فلربما نجد بدائل أخرى لا تحمل في طياتها مخاطر وتبعات عديدة كالتي تقدم شرحها، بل يجدر بنا أن نفكر كثيرا قبل المناداة بها أو قبولها.


*رئيس مجلس أمناء جامعة اليرموك

No comments:

Featured Post

PINK ROSE