التعليم المبني على القيم

التعليم المبني على القيم

الأستاذ الدكتور وليد المعاني


إستحوذ التعليم العام على إهتمام الناس في الفترة الأخيرة، وتصدرت أخباره الصفحات الأولى في الصحف الرسمية و على منصات التواصل الإجتماعي. وأدلى كل بدلوه، الذي يعرف والذي لا يعرف واختلط الحابل بالنابل  ، وتم تمزيق كتب وحرقت أخرى. وانقسم الناس لمعسكرين كل معسكر يدعي أنه يدافع عن الصواب وهم يتحدثون عن نفس الشيء، بل لقد وصل الأمر ليصار إلى كتابة مرفق يقوم المعلمون بتدريسه يحض على القيم النبيلة والأخلاق لإثبات أننا كلنا لا نختلف على أهمية القيم والأخلاق والثوابت.
في كل هذا الحديث الحاد الذي جرى في الأشهر الأخيرة، لم يتحدث المتحدثون عن العلوم إن كانت فيزياء أو كيمياء، أو عن الرياضيات، ولا عن الجغرافيا وعلوم طبقات الأرض، أو الحاسوب أو حتى عن النشاطات المدرسية من فن ورياضة وتوسيع مدارك، ولا عن مناهج خارج المنهاج إضافية للتثقيف أو التقوية. ولم يختلفوا  على مستوى هذه المادة أو تلك، ولا على ما يحب أو لا يجب تدريسه. كان الجميع يتحدث عن القيم والثوابت والأخلاق.
يتفق الجميع على أنه من واجب المدارس آن تنمي وترعى القيم في الطلاب الملتحقين بها، مكمله بذلك منظومة القيم التي من المفروض أن يكون الأهل قد زرعوها في أطفالهم بحيث أصبحت جزءا من تصرفاتهم التلقائية الطبيعية.

لقد أدى تفهم المدارس لهذا الواجب، إلى أن تقوم المدرسة بالحديث عن “القيم” و “المواطنة الصالحة” بإعطاء الطالب جرعات كبيرة من خلال المعلمين والمربين والمرشدين عن  “كيف تكون إنسانا جيدا”.

ما كان المعلمون والمربون والمرشدون  من ناحية، ولا كانت المدارس من ناحية أخرى ترى هذا ضروريا لولا إدراكها التام وغير المشكوك فيه، أن المناهج التي تدرس في المدارس عاجزة أو قاصرة، أو في معظم الأحيان لا تحتوي على أي مادة تتعلق بالقيم والمفاهيم.

كم من المرات عجز المربون والمديرون وحتى المعلمون عن التعامل مع بعض الطلبة “الأشقياء”، اللذين يتعاطون مع أمور إجتماعية بصورة مزعجة، أشياء كالجنس ذكرا وأنثى ، أو اللون أو الشكل (نحيفا أو سمينا)، أو العرق (مثلنا أو لا يشبهنا)، وحديثا الدين هذا أو ذاك.

كان الطلبة اللذين يقومون بهذا ليس الطلبة الأشقياء فقط ، اللذين كانوا يأخذون الأمور بأيديهم ويضربون أو يدفعون ، أو بألسنتهم فيتهجموا أو يتهكموا، وإنما الكثيرين من الآخرين اللذين يتفقون معهم دون أن يظهروا ذلك. والأمر واضح جدا في تلك المجتمعات التي تتميز بالتفرقة بين الذكر والأنثى، وبين الغني والفقير، وبين الطائفة هذه أو تلك.

فالمشكلة موجودة وبصورة كبيرة على الرغم من أن القوانين المشرعة في كل الدول تتحدث عن المساواة التامة وعن العدالة وعن إتاحة الفرص للجميع بطريقة عادلة.

هل كنا قصيري النظر ( كمخططين تربوين ) لدرجة أننا ركزنا على المعرفة بحد ذاتها، وعلى التقييم،  كهدفين يقاس مستوى أداء المدارس عليهما فقط؟. هل كنا نعلم الطلبة دون أن نربيهم؟ هل إنجرفنا وراء التحصيل والتنافس بين المدارس لتحقيق التراتيب لضمان إلتحاق الطلبة، ولضمان السمعة العطرة، ولضمان مقاعد لطلبتنا في الجامعات المرموقة في نهاية العمر المدرسي؟ هل نسيبنا في غمرة هذا الإنشغال أن ندرك أنه كان من الواجب أن نولي القيم والأخلاق حيزا أكبر في تفكيرنا؟ هل يتساوى هذا مع إبتعاد الجامعات، وحتى الأهل،  عن تدريس العلوم الإنسانية من منطق وفلسفة وفن وجماليات للطلبة وللأبناء، مفضلين أن يتوجهوا لدراسة العلوم البحتة أو المهن ذات المردود العالي؟.

كيف لنا أن ندرس القيم في مدارسنا؟ هل هي مواد تكتب في كتاب، يتم إمتحان الطالب في محتوياته آخر السنة الدراسية؟. أم هل هي مجموعة من الأوامر أو التعليمات تصدرها الإدارات المدرسية من نوع “إفعل هذا ولا تفعل ذاك”؟. أم أنها يجب أن تكون مجموعة من المفاهيم التي تدعونا للتفكير عند مواجهتنا لموقف إنساني يقتضي فيه أن نختار كيف نتصرف وأين نقف؟ أم هي مجموعة من المفاهيم التي قد تؤدي بنا لتغيير تصرف كنا قد نتصرفه، لو أننا أعملنا فكرنا بحيث أخترنا الصواب؟.

إن التعامل مع تدريس القيم ليس ببيان ما هي القيم الجيدة التي يجب على الطالب إتباعها، وإنما هي كيفية إفهام الطالب ماهي النتائج المترتبة على هذا التصرف أو ذاك، إن تصرف تصرفا يتقتضي التمييز في العرق أو الدين أو غيره، أو حقدا إجتماعيا معينا تجاه هذا أو ذاك، وبالتالي تعليمه كيف يجب أن يكون إختياره للتصرف الصائب، هو الإختيار الأنسب والدائم.

لا يمكن أن يتم تدريس هذا الأمر في حصة دراسية، ولا يمكن أن يكتب في كتاب، وإنما يمكن التعامل معه من خلال التحاور بين الطلبة أنفسهم وبين الطلبة وأساتذتهم في جلسات تتعلق بالحوار والنقاش، جلسات تطرح فيها القضايا وتناقش بصوت عال، تسمع فيها كل الآراء ويكون لكل شخص حرية الكلام والنقاش. وهي ليست عملا منعزلا، واحدا، نقوم به مرة واحدة وينفض السامر بعدها، ولكنه طريقة حياة بالنسبة للمدرسة ومعلميها وطلبتها، نشاط متواصل لا ينقطع حتى يصبح عادة لا يمكن التخلي عنها.
إن التفكير الناقد والتحليل للمشاكل الإجتماعية ومعيقات الإنخراط في المجتمعات، ومبررات الفرقة، يجب أن تطرح وأن تناقش من قبل الأشخاص اللذين سنتهمهم في النهاية بممارسة هذه الأفعال إن لم يتبينوا خطأهم هم بأنفسهم ويعدلوه إبتدأ.

كل ما تحدثت عنه في الدقائق الماضية كان عن تعليم القيم، وهو أمر جيد. ولكن هل هو نفسة التعليم المبني على القيم؟ والجواب قطعا بالنفي.

وذلك لأن الأخير أمر لايتم في يوم وليلة، وهو موجه للكبار بقدر ماهو موجه للصغار، وللمعلمين بقدر ما هو موجه للطلبة، ولا هو بمادة تضاف لمنهاج ، وهو لا يعني فقط أن تكون جيدا،. ولكن يمكن القول بأنه الأسلوب الذي به نتمكن من السيطرة التامة على عواطفنا وعلى مشاعرنا وتوجيهها في الإتجاه  الصحيح.

وعليه يمكن تعريفه بأنه توجيه المنهاج بحيث يعكس القيم التي تمثلها وتتبناها المدرسة بشكل عام. ويكون هذا عادة من خلال أي نشاط بغض النظر عن نوعه ما دام يحقق الهدف. وهو يتضمن مدخلات من المنهاج نفسه تضع الطلبة في الموقف الذي يتطلب تطبيق القيم، ومدخلات من المربين مبنية علي التصرفات التي تشجع القيم، لإفهام الطالب أن ما قام به أمر جيد. وهو تعليم يحرر المعلم والطالب من وضعية المواجهة التي تتطلبها حقيقة أنه يعرف أكثر.

يقول نيل هوكس “ يعمل التعليم المبني على القيم على تزويد طلبتنا ببوصلة خلال وجودهم في المدرسة وخلال حيواتهم، مقويا قدراتهم على الصمود والعيش الصحيح، ويعمل على تطوير شخصياتهم الجيدة وتفكيرهم العميق و تصرفاتهم غير الأنانية. إن نتاج هذا النوع من التعليم هو تحول ايجابي في الأشخاص والمؤسسات التعليمية التي تطبقه، وهو ما يحتاجه عالمنا اليوم”.

يؤدي التعليم المبني على القيم لأمور كثيرة، فعدا عن تحسينه لنوعية التعليم، إلا أنه يحسن الجو والمزاج التعليمي في المدرسة فيصبح التعليم بلا خوف. ومن خلال إعطاء الفرص للطلبة لتحمل مسؤولية أكبر فهو يجهزهم لتحمل هذا الدور بعد مغادرتهم للمدرسة، فإن ربط هذا مع تعلم حل المشكلات نتيجة التلاحم والترابط الجمعي بين الطلبة، فإنه سيؤدي لخلق بيئة مثالية لتجنب الوقوع في الجدل المؤدي للنزاع.

سيؤدي إعطاء الفرص للطلبة لإبداء الرأي في مدرستهم ومناهجها لدفعة إيجابية لدي الطلبة لقناعتهم بإنهم يساهمون هم في تقرير مستقبلهم، وسيؤدي تطبيقهم لمبادىء القيم العالمية إلي تحسين تصرفاتهم المبينة على المثل والقيم. وفي النهايه فإن تبني التعليم التشاركي غير المواجه سيؤدي لمجتمع طلابي يسير بيسر في طريق واضح تحكمه وتقوده مثل وقيم عليا.
على المدسة أن تحدد إبتداء ماهي القيم التي ستتبناها لتكون النبراس الذي تهتدي به وتسير على هديه، وذلك قبل البدء في تطبيق التعليم المبني على القيم. إذ سيكون من العبث الحديث عن هذا النوع من التعليم قبل أن تتبنى المدرسة نفسها تلك القيم. قد تتبنى المدرسة قيما كالعدالة وإحترام الغير والمساواة وعدم العنف. وهنا فإن كل فعل نتج عن منهاج أو درس أو تصرف من طالب أو معلم يجب أن يعكس هذه المبادىء المتبناة في كل لحظة وفي كل يوم، وإلا كانت الأهداف نظرية “وهى أهداف نبيلة” ، ولكنها لا تنتقل بالمدرسة اإلى التعليم المبني على القيم، وإنما تبقى أهدافا عامة قد تتحقق أو لا تتحقق.

أن الحديث عن تبني وممارسة القيم في كل فعل، سيتيح للطالب أن يدرك نتاج أفعاله إن تماشت أو تعارضت مع هذه القيم، وبالتالي تدعوه للتفكير في القرار أو المسار الذي سيتخده حيال حدث معين أو مشكلة معينة. وبالتالي فإن توصله للتصرف السليم سيجعل منه طالبا جيدا ولاحقا مواطنا جيدا.

إن إنتاج المواطن الجيد المتمسك بالقيم والمثل العليا هي نتيجة حتمية لتكوين الطالب الجيد المتمسك بنفس القيم والمبادىء، وكليهما سيعملان على حماية المجتمع وعلى حماية أفراده.

عندما تتبنى المدرسة هذا النهج، سيرى الطلبة كيف تتطبق المثل والقيم على أرض الواقع، ستصبح ممارستها والحديث عنها تحصيل حاصل ينطبع في تكوين الشخصية، وستؤدي لزيادة في تقدير الطالب لنفسة وبالتالي زيادة إنتاجيته، وستحقق المدرسة مستوي تعليميا مرتفعا ونتائج أكاديمية عالية. ليس هذا فحسب وإنما سيقل العنف في المدرسة وسيقل الإستقطاب بين الطلبة، ويزداد الترابط بينهم وسيشكلون فريقا تحكمه نفس المبادىء. وسيؤدي هذا إلى ظهور القادة بينهم، اؤلئك اللذين يوجهون ويقترحون.

إن المدرسة، أي مدرسة هي مجتمع من الطلبة أتوا من خلفيات متعددة تحكمها مثل وقيم مختلفة. تختلف هذه القيم من مكان لمكان، وتتنوع، بعضها ممتاز وبعضها ليس بالجيد. وتختلف تلك المجتمعات كذلك في مدى غناها أو فقرها، وتختلف بمدى ايمانها بأن الحياة كانت عادلة أو غير عادلة معها.

إن الطلبة اللذين يلتحقون بالمدرسة من مجتمعات وخلفيات متتعددة سينقلوا تحيزاتهم اليها، وبالتالي فإن هدف المنهاج المبني على القيم هو الإنتقال بهم إلى القيم والمثل الصحيحة التي تتبناها المدرسة، أملين أن يؤدي تغيرهم للأفضل لأن يؤثروا على مجتمعاتهم التي قدموا منها، بحيث يؤدي هذا التأثير لتغيرها نحو الأحسن.

أن إنخراط هؤلاء الطلبة في مجتمعاتهم حاملين القيم الصالحة سيؤدي بهم للبقاء داخل هذه المجتمعات وعدم مغادرتها، وبالتالي الإرتقاء بها.

في النهاية، فإني أعتقد أن تبني مناهج تقوم على القيم، وبالتالي تبني تعليم مبني على القيم، يقوده معلمون وأداريون منسجمون معه، سيؤدي حتميا إلى إنتاج طلبة شاهدوا كيف تعمل القيم وتتفاعل على أرض الواقع طوال مدة دراستهم، فآمنوا بها وأصبحت نهج حياة بالنسبة لهم، وبالتالي فلا يوجد لدي أدنى شك في أنهم سيكونون أعضاء فعالين في مجتمعاتهم بل قادة لها، يسيرون بها للأمام تحكمهم قيم العدالة والمساواة وحب الآخر، دون كراهية ودون عنف.

المحاضرة التذكارية في الملتقى الثقافي التربوي للمدارس الخاصة
عمان  ٢٠١٦/١١/٢٦

No comments:

Featured Post

PINK ROSE