التعليم العالي المتميز أهم دعائم الرفاه الاقتصادي والاجتماعي


نص محاضرة القيت في جامعة البتراء في 22/11/2010 

بعد سنتين من اليوم ستكون الجامعة الأردنية قد احتفلت بيوبيلها الذهبي، وهو أمر عزيز علينا وله مغازي كثيرة. فمن عدد من دور المعلمين والمعلمات إلى ما يقرب من ثلاثين جامعة في اقل من نصف قرن، ومن اقل من مئتين من الطلبة الجامعيين عام 1962 ال ربع مليون منهم، وبعد ثلاثة من الأساتذة الأردنيين وبعض زملائهم العرب إلى ما يقرب من ستة آلاف أستاذ، فأي معجزة هذه وأي انجاز!!!


 لقد وجه جلالة المغفور له الملك حسين بن طلال إرادته إلى رئيس الوزراء في (12/2/1963) لتشكيل اللجنة الملكية لشؤون التربية تكون مهمتها الأولى تقديم المقترحات بشأن إنشاء جامعة أردنية. وتبع ذلك بإصدار نظام سياسة التعليم العالي الذي نص على بذل الجهود الحكومية والخاصة لإنشاء جامعة أردنية تلبي حاجات التعليم المتزايدة.

لقد لخص جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه رسالة التعليم العالي في خطابه في حفل تخريج الفوج الثامن في الجامعة الأردنية (1972/1973)  حين قال " حين قامت هذه الجامعة لم يكن من أهدافها أن تقدم للأردن أفواجا من ذوي الألقاب وحملة الشهادات، ولكن هدفها الأكبر كان وسيبقى أن تقدم للأردن وللعرب أفواجا من ذوي الطاقات وأصحاب القدرا ت"،   وهي نفس الرؤية التي مافتئ جلالة الملك عبد  الله بن الحسين يرددها على مسامع المسئولين في التعليم العالي كلما التقى بهم.

إن أي محاولة لمواجهة المشاكل التي يعاني منها الأردن في مجالات عديدة لضمان نماء اقتصادي مستدام لا يمكن أن يتم دون استخدام التكنولوجيا المتطورة ، ودعونا هنا نذكر بعض المجالات  مثل المياه والطاقة والزراعة التي تحتاج منا إلى جهود كبيرة لتطويرها لتحقيق أهداف التنمية. إن فهم أنواع   التكنولوجيا واستخدامها لا يمكن ان يتم دون وجود قوى بشرية ماهرة مدربة على استخدام هذه التكنولوجيا، لأنه بدون ذلك علينا استيراد الكوادر البشرية القادرة، لأن التنمية ضرورة لوجودنا ولا يمكن التأخر في تحقيقها لعدم وجود من هو قادر على إحداثها.

إن أي محاولة لمعالجة الفقر والتقليل منه يعتمد على رفع مستوى التعليم للمواطنين لتسليحهم بالقدرات اللازمة للعملية الإنتاجية، وهذا لا يتأتى بدون تعليم عام وتعليم عال من نوع متميز. أن ازدياد الوعي بأن وجود قاعدة علمية تعليمية  قادرة على التعامل مع مجتمع اقتصاد المعرفة هو الذي حدا بكل الدول والمؤسسات للقول بأن الأساس في هذا كله هو نظام تعليم عال قوي.

لقد كانت الزراعة وملكية الأراضي مصدر ثراء المجتمعات الزراعية، في حين كان مصدره رأس المال والصناعات في المجتمعات الصناعية، ولكن في مجتمعاتنا الحديثة فإن ما يدفع عجلة النمو هو المعرفة. أن التعليم العالي هو المصدر الرئيس لهذه المعرفة، وهو الموزع لها بين طبقات الناس ويكون ذلك من خلال توفير القوى البشرية المؤهلة القادرة على التعامل مع الإنتاج المبني على المعرفة، فكلما زادت المعرفة زاد الإنتاج المبني عليها وزاد ثراء المجتمع.

يعاني الأردن من اختلال كبير في هرمه التعليمي، بحيث يشكل الملتحقون بالجامعات للحصول على درجة البكالوريوس ما نسبته 83% من الملتحقين بالتعليم العالي، في حين يشكل الملتحقون بالتعليم المتوسط نسبة تبلغ 7%. وعلى الرغم من إدراك الطلبة (وذويهم) بأن البطالة بين حاملي الدرجة الجامعية الأولى تبلغ 20%، إلا أنهم مازالوا يرسلون أبنائهم للجامعات وفي تخصصات مشبعة في اغلب الأوقات. إن إحصاءات ديوان الخدمة المدنية تشير لوجود 220 ألف طلب توظيف فيه، تزداد سنويا بحدود 40 ألفا، وتنقص 10 آلاف تعينهم الدولة في وظائف شاغرة. وفي نفس الوقت لا تجد في سوق العمل فنيا متخصصا في هذا الأمر أو ذاك وتضطر لاستيراد ذلك الفني من دول أخرى. لقد حددت دراسة صدرت حديثا (نشرت مقتطفات منها في صحف اليوم) عن ديوان الخدمة المدنية اغلب المشاكل التي يواجهها الخريجون في سوق العمل وعدم موائمة مخرجات التعليم لمتطلبات السوق، وأوصت فيما أوصت بتوجيه الطلبة نحو التعليم التقني وأوصت كذلك برفع معدلات القبول في الجامعات العامة والخاصة على حد سواء.

لقد ساعدت المفاهيم المجتمعية على هذا التوجه نحو الجامعات، وزاد التوجه بتزايد أعداد الملتحقين ببرامج الدراسات العليا من ماجستير ودكتوراه. فالكل يريد أن يصبح أستاذا جامعيا كما أن الكل يريد أن يصبح طبيبا أو مهندسا. وعملت الجامعات على تغذية هذه المفاهيم بتوفير الفرص على مستوى الدراسات العليا في تخصصات لا حاجة لها وبتكرار ممل، ونسخت الجامعات تخصصاتها على مستوى الدراسات الدنيا نسخا عن بعضها، وأيضا في تخصصات راكدة دون مراجعة لمتطلبات السوق. لقد ساعد على ذلك عدم توفر دراسات حقيقية لماهية القوى العاملة التي يريدها السوق هنا وفي المنطقة، وعدم رغبة الجامعات في التغيير وعدم قدرة الطلبة على فهم ماذا يريد المستقبل. فلا يوجد لدينا مرشدون في مدارسنا يوجهون ويشرحون للطلبة ماذا ينتظرهم خارج أسوار المدارس، ولا يدعى أناس مهنيون للمدارس للحديث عن تجاربهم المهنية، فهذا محاسب ناجح وذاك مهندس زراعي متميز وهكذا، بل يترك الطلبة لشرح مبتور من زميل أو قناعة زرعتها أم في عقل طفل أو تقليد لقريب، وقليلون هم اللذين يشذون عن هذه القواعد، فالقرار متخذ وفي كثير من الأحيان بالإيحاء دون أن يكون لصاحب الشأن رأي.

هناك أسئلة صعبة علينا الإجابة عليها ويجب أن يحكم الإجابة عليها معلومات متوفرة عن حاجات الدولة وخططها الإستراتيجية وقدراتها وقدرات مواطنيها:
·       فهل يجب بقاء نسبة الملتحقين بالتعليم الجامعي كما هي؟ أم يجب خفضها و ماهي البدائل؟ 
·       هل هناك استعداد مجتمعي لقبول خريجين من برامج متميزة للتعليم التقني ذا مردود مالي مساو للخريج الجامعي؟
·       هل معدلات الالتحاق بالجامعات الحكومية والخاصة هي معدلات مناسبة قادرة على توفير الطالب المستعد للتميز الجامعي؟
·       هل يجوز تحت دواعي الاستثمار إلحاق أي كان في التعليم الجامعي الخاص حتى لو أدى هذا الالتحاق لتخريج طلبة على سوية غير جيدة أو ادى الى إلحاق أذى بسمعة التعليم الأردني؟


وهناك أسئلة أكثر صعوبة، علينا كذلك أن نتدبر أمر الإجابة عليها:
·       كيف يمكن توفير الأستاذ المؤهل والحفاظ عليه وتوفير الظروف المناسبة له بحيث يعطى طلبته كل ما لديه ويزرع فيهم حب العلم والمعرفة والتميز؟
·       كيف يمكن توفير الأموال اللازمة للجامعات لتجهيز البني التحتية اللازمة لعملية تعليمية متميزة؟
·       كيف يمكن تحويل جامعاتنا من جامعات للتدريس فقط إلى جامعات تقوم على البحث العلمي؟
·       كيف يمكن أن تكون الجامعات حاضنات للعلم والفكر وصناعة العقل؟

إن الإستراتيجية الوطنية للتعليم العالي وكذلك الإستراتيجية الوطنية للبحث العلمي اللتين بنيتا على ما جاء في الأجندة الوطنية ومنتدى كلنا الأردن ومؤتمر التعليم العالي الذي عقد في البحر الميت، وكذلك التقرير الذي قدمه رؤساء الجامعات الأردنية لسيدي صاحب الجلالة الهاشمية قد بدأت في إعطاء أكلها.

·       فقد تم توفير البنية التشريعية اللازمة لتوحيد التعليم العالي الأردني وتطبيق نفس المعايير عليه إن كان في الترخيص أو في الاعتماد.
·       وأعطيت صلاحيات واسعة للجامعات ومجالس أمنائها بطريقة تشكيلها الجديدة من الأكاديميين المرموقين لقيادة هذه الجامعات.
·       وعقد مؤتمر وطني  للخطط الدراسية وأساليب التدريس تعمل في الوقت الحالي اللجان المشكلة من الجامعات الرسمية والخاصة على رسم مسار طريق التغيير لهذه الخطط ولتلك الأساليب، بحيث تحدث المعلومات وتدخل أساليب التعليم الإلكترونية الحديثة في كل خططنا الدراسة، وتضمن مكونات تدريبية و مهارية وقدرات على التواصل اللغوي والكتابي يحتاجها ارباب العمل في كل الوظائف.
·       وأعيد تنظيم القبول الجامعي بحيث أصبح الكترونيا دون تدخل بشري.
·       ووضعت الخطط لإبتعاث أشخاص ليعودوا أعضاء هيئة تدريس مؤهلين إلى كل من ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
·       ووضع قانون الأكاديمية الأردنية للتعليم التقني والتي ستقبل طلبتها في العام القادم لتضيف نوعا من الخريجين افتقدناه في الأردن يدفع لهم كما يدفع لحاملي البكالوريوس بعد أن قام مجلس الوزراء بإقرار التعديلات على نظام الخدمة المدنية وأرسل لديوان التشريع.
·       ووضعت أسس بنك الإقراض الطلابي ليبدأ عمله في العام القادم حيث تتحول القروض التي تمنحها الوزارة إلى منح طلابية غير مستردة تعطى للمتميزين من الطلبة، بحيث يصبح التمويل الطلابي في حدود 65% من عدد الطلاب الملتحقين بالبرامج العادية في الجامعات الرسمية في عام 2014.
·       وتم تشكيل لجان من الجامعات لتوحيد الأنظمة الجامعية البالغة 280 نظاما كلها نسخ عن بعضها البعض، تاركين للجامعات الخصوصية التي ارادتها قوانينها.
·       وعدلت الأنظمة المتعلقة بمعادلة الشهادات واختصرت اجراءاتها وسمح بمعادلة الدراسة بالطرق غير التقليدية، كما عدلت الأنظمة المتعلقة بالترخيص ومكاتب الخدمات الجامعية، ووضعت أنظمة للبحث العلمي صادرة بموجب القانون، وعدلت التعليمات المتعلقة بكيفية التقدم للدعم وكيفية احتساب النقاط، وعدلت أسس تشكيل هيئات التحرير في المجلات العلمية الوطنية ومدد عضويتها.
·       وتم تسهيل الأمور على المراجعين لتصديق شهاداتهم بافتتاح أربعة مكاتب رئيسة في الجامعات الخاصة نفتتح احدها اليوم هنا في جامعة البترا.
·       وأصدرت تعليمات جديدة تسمح بإقامة مؤسسات تعليمية عليا ذات طبيعة خاصة تمنح درجة البكالوريوس وما يليها في موضوع محدد.
·       وهناك مشروع نظام جديد سيعرض على مجلس التعليم العالي فيما يتعلق بشروط ترخيص الجامعات الخاصة.

إننا نعتقد أن التعليم العالي قد وضع على الطريق الصحيح، ولم يكن ذلك بالإمكان لولا الرؤية الملكية السامية فيما يجب أن يكون هذا التعليم عليه والدعم غير المحدود من الحكومة للتوجهات الملكية استجابة لما ورد في كتب التكليف السامية، ولم يكن هذا ليتحقق كذلك لولا رغبة القائمين على التعليم العالي في كل مؤسساته ومجالسه بالسير في طريق الإصلاح، فهو اولا منهم ولهم ولأبنائهم.

أن الأردن يستحق منا أن نسير في طريق التعليم المتميز كل في حقله وكل في مجال تخصصه، ولنتنافس فيما بيننا، فالتنافس هو طريق التميز، ولنوقف كل برنامج عفا عليه الزمان ولنتحسس حاجات الوطن بافتتاح البرامج الجديدة، ولتتميز جامعاتنا الواحدة عن الأخرى حتى نصل لوقت نصدر فيه ترتيبا لجامعاتنا ولبرامجها، لأن المتميز يجب أن يظهر ويحكى عنه. فعلنا في يوم ما ليس بالبعيد أن  نري جامعة أو جامعات في هذا الوطن تظهر في ترتيب عالمي للجامعات المتميزة. ولننشئ مراكز للبحث ترفد الوطن بما يحتاجه من دراسات تتحسس مشاكله وتعمل على حلها، ولنبادر لذلك دون أن ننتظر أن ندعى. ولتعود الجامعات لتصوغ عقول الطلبة بالفكر النير المتحرر الذي يقبل الأخر ويحاوره في كل المجالات، ولتعود كذلك لتعلم الطلبة أسس البحث العلمي الذي يصنع المستقبل ورفاه الناس.

حفظ الله الأردن، وحفظ الله مولاي صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله ابن الحسين ، وأدام ملكه وأعزه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

No comments:

Featured Post

PINK ROSE