مجانية التعليم العالي: ليست ترفا وإنما ضرورة

أ. د. وليد المعاني*
قليل هو الحراك الفكري الذي نتج عن المقالين اللذين نشرتهما في "الغد" عن "التعليم الموازي والتمويل الجامعي ومجانية التعليم" (14/ 3/ 2016) و"نحو عدالة مجتمعية وتكافؤ للفرص: تعليم عال مجاني وصندوق وطني لدعم الجامعات الرسمية" (31/ 3/ 2016). إذ فيما عدا مقال للأخ الصديق معالي الأستاذ الدكتور فايز الخصاونة، فإن أي تعليق لم يصدر حتى عن أولئك الذين يتحدثون في التعليم بكثرة. لا بل إن أحدا لم يتناول الموضوع بنقد إيجابي أو سلبي، بمن في ذلك الصحفيون والأشخاص الذين أرسلت لهم المقالين شخصيا. ولا أدري ما سبب حالة عدم الاهتمام أو عدم الاكتراث هذه تجاه القضايا المهمة، وما هو سبب الرغبة في نقد الأمور من دون المشاركة في طرح الحلول.
إنني لا أقترح حلولا لمشاكل التعليم العالي في الحوكمة والقبول والمناهج وأعضاء هيئة التدريس، ولا على صعيد ترشيد الإنفاق وتقوية البحث العلمي والابتعاث. ومجالات البحث في هذه القضايا مفتوحة لمن يريد أن يبحث ويقترح، ولكنني أتحدث في جزئية التعليم العالي المجاني على مستوى البكالوريوس للمقبولين عبر القبول الموحد، ضمن الأعداد المقرة من هيئة الاعتماد، وبالتالي فإن هذا مجال البحث والتعليق.
تاريخيا، لم تدعم الحكومات المتعاقبة أيا من الجامعات الرسمية دعما مباشرا، فيما عدا الدعم الذي قُدم لمدة سنتين عند إنشاء الجامعة الأردنية، والدعم الذي قدم للجامعات منذ 1/ 1/ 2011 بعد دخول قانون الضريبة الموحد الصادر في العام 2009 حيز التنفيذ. لقد مول الشعب الأردني التعليم العالي ما بين العامين 1964 و2010 من الضرائب التي فُرضت عليه لمصلحة الجامعات "خصاً نصاً"، ومنها تلك الضرائب التي اقتطعت بعضا من رسوم جمركية، أو تلك التي أقرت ضريبة إضافية على بيع أرض أو بناء بيت أو رسم مخطط أو رسم تلفزيون أو دينارا على فاتورة هاتف.
لقد اقتنع الشعب الأردني بأهمية التعليم، وفهم تماما أن لا تنمية أو تقدم من دونه. وتشرّب هذا الشعب حقيقة أن التعليم هو سبيل الفلاح والنجاح، فأقبل عليه شيبا وشبانا؛ الشبان يسعون إليه لكسب التأهيل الذي يفتح أبواب الحياة لهم، والشيب لأننا جعلنا الدراسات العليا بابا للرقي والتقدم. 
كما شرّعنا أنظمة وتعليمات تحط من مستوى التعليم التقني وترفع من مستوى التعليم الأكاديمي ماليا ووظيفيا، بحيث انصرف الناس عن الأول وتهافتوا على الثاني. غير أن هذا التشجيع على التعليم الأكاديمي لم تقابله تنمية اقتصادية لامتصاص الأعداد المتراكمة من الخريجين، فتزايدت البطالة والاختلالات في سوق العمل.
واكب كل هذا طلب متزايد على التعليم الأكاديمي ونقص في الالتحاق بالتعليم التقني، وشح في التمويل الجامعي، فلم تجد الجامعات وسيلة للتمويل غير البرامج الموازية لتوفير المال لإدامة عملياتها، ودفع رواتب أساتذتها وموظفيها الضروريين وغيرهم. وأخذ البرنامج الموازي يتمدد على حساب البرنامج العادي تدريجيا.
في المقالين السابقين، طرحت مقترحا يتمثل في إلغاء تدريجي للبرنامج الموازي، وتعويض مالي للجامعات مقابل ذلك. وعندما نظرت في البرنامج العادي، وجدت أن الدولة تمول 50 % من طلبته، فاقترحت أن يتم تمويل الـ50 % الباقية بأسلوب نصل به إلى تعليم لا موازي فيه ولا رسوم جامعية تطلب مقابله. واقترحت أن نمول كل هذا نحن الأردنيين، كما كنا نمول التعليم العالي منذ 1964 وحتى 2010، شريطة وضع ضمانات معينة لئلا تؤول الأموال الجديدة إلى مصير مشابه لمصير الأموال السابقة.
تلقيت تعقيبات على طروحاتي هذه؛ من أولئك الذين يعتقدون أن التعليم المجاني يجب أن يكون للمتفوقين فقط، إلى أولئك الذين ينادون بأن التعليم العالي أساسا هو للنخبة، ولا يجوز أن يُقبل فيه كل من تخرج ناجحا في امتحان الثانوية العامة "التوجيهي".
لقد أراد أغلب الناقدين خلط الأوراق لتشتيت الفكر، وتوسيع مجال البحث حتى تفقد البوصلة اتجاهها. إذ لم أطرح إطلاقا أن القبول للجميع، ولم أقل إن الحد الأدنى للقبول هو 60 %، وقطعا لم أناد بإغلاق الجامعات الخاصة. وهذا الأمر الأخير لا يثار إلا بهدف الدعوة للاصطفاف في معسكرات متضادة.
الدعوة التي أنادي بها واضحة محددة، تقوم على ترشيق الأعداد في الجامعات لتتواكب مع متطلبات الاعتماد، ويلتحق بالجامعات ضمن هذه الأعداد المقررة كل طالب تنافس وحصل على مقعد من خلال القبول الموحد. ومتى التحق هؤلاء، كانت دراستهم مجانا طالما بقيت معدلاتهم التراكمية فوق 2 من 4.
واستكملت المقترح بأن حددت مجال التمويل من أبناء هذا الشعب؛ متكافلين متضامنين، ندفع كلنا لمن التحق بالتعليم الرسمي تنافسا. وهو تمويل يحافظ على مدخرات الناس، ويمنع بعض الطبقة الوسطى من الذوبان والتلاشي. وهو أنموذج يساعد على توجيه الناس للتعليم التقني.
التعليم العالي ليس فقط للقادرين عليه ماليا، ولكن للقادرين عليه عقليا، حتى لو لم يملكوا شروى نقير، وواجبنا توفير المال للناس حتى يتعلموا. أما القول بأننا يمكن أن نقرض الناس أموالا يسددونها بعد تخرجهم فهو قول سهل وصحيح لو توفرت فرص العمل، ولكن في مجتمع لا يجد غير 30 % من قواه الواردة إلى سوق العمل فرصا، وتبقى البقية تحوم في متاهات البطالة وقوى الجذب، فلا مجال للتسديد على الإطلاق، وسيفشل أي مشروع يتبنى هذا الطرح.
دعونا لا نضع العصي في دواليب الحلول. ولنتشارك كلنا من أجل كل أبناء هذا الوطن؛ نؤهلهم، فنحميه من عاديات الزمن، ونمول تعليمهم فنزيد فرص رخائه، ونتكاتف معا لنزيد الترابط بيننا. 

نحو قراءة الأفكار الجادة في البرامج الموازية في الجامعات الأردنية

نحو قراءة الأفكار الجادة في البرامج الموازية في الجامعات الأردنية
 أ.د. محمد القضاة

11/04/2016 - 7:30am

طُرحت في الآونة الاخيرة العديد من المقالات الجادة والآراء السديدة حول البرامج الموازية وعدم دستوريتها، وهي افكار يجب ان تناقش بروية وموضوعية؛ لأنها تضع يدها على الخلل الحقيقي الذي تعيشه الجامعات والأسر الاردنية، ومن الجدير ذكره اطروحات الدكتور وليد المعاني التي تناول فيها فكرة هذه البرامج وتسلسل فيها حين طرحت عام 1997في مقالته ذائعة الصيت والمعنونة:» التعليم الموازي والتمويل الجامعي ومجانية التعليم» والمنشورة في جريدة الغد بتاريخ 14/ 3/ 2016 ، وتحدث فيها بلغة الأرقام وتاريخ معظم البرامج التي بدأتها الجامعات منذ العام 1997 حين قال: « لطالما كنت من القائلين بعدم دستورية البرنامج الموازي، وبأنه سيخلق لنا من المشاكل أكثر مما يحل. قلت ذلك عندما عملت نائبا لرئيس الجامعة الأردنية العام 1997... وقلتها وأنا وزيرا للتعليم العالي في حكومة سمير الرفاعي. وما أزال مقتنعا بهذا الأمر لغاية اليوم».
هذا كلام واضح يستحق القراءة؛ لانه يضع النقاط على الحروف ويدرك كاتبه حجم المشكلات التي بدأت تعانيها الجامعات في إطار إعداد الطلبة والظروف المالية الصعبة للجامعات وعدم قدرة الجامعات على تنفيذ الطاقة الاستيعابية التي تقررها هيئة الاعتماد، ولان البرامج الموازية موجودة الآن وغدت مشكلة حقيقية لعدم قناعات الكثيرين بها، غير انها تسد جزءا من العجز المالي للجامعات، واذا ما الغي هذا البرنامج لا بد من تعويض هذا العجز كي تستمر الجامعات في برامجها الأكاديمية والعلمية، وهذا ما أشار اليه الدكتور المعاني في محاضرته يوم السبت9/ 4/ 2016 في مقر حزب الإصلاح عندما طالب بإلغاء البرنامج الموازي وتعويض الجامعات عن الدخل، وذلك لتحقيق العدالة ولتحميل الحكومة مسؤولياتها في دعم جامعاتها الحكومية ولإصلاح الخلل الدستوري في القبول، وهذا الرأي يضع الجميع امام معادلة غاية في الأهمية في ظل تنامي شعور اللامسؤولية الجمعية عند الكثيرين ممن يريدون ان تفتح الجامعات ابوابها على مصراعيها لكل من هب ودب، دون ان يعي هذا الشعور ما تعانيه الجامعات من ظروف صعبة قد تنذر بانهيار الجامعات ماليا، وهو ما يتوافق احيانا مع الصورة السلبية التي تأتي احيانا من فكر متطرف او صاحب نظرية فوضوية تدعو الى تكثيف الضغط على مؤسسات الدولة لتخفيض حتى رسوم البرنامج العادي والدراسات العليا لغايات واهداف شخصية، وهذه الأفكار لا تخدم العملية التعليمية، ولا المؤسسات الجامعية؛ وإنما هي نذير فكر متطرف بين بعض الطلبة، وللأسف أشار بعض الطلبة الى دور بعض الأطراف في تأجيج الموقف من داخل البيت الجامعي للاستمرار في الضغط للتشويش على اي فكرة إيجابية يمكن ان تخدم الجامعة وبرامجها العلمية والاكاديمية. ومما يؤسف له ان هناك بعض الحملات تتبنى ذلك الفكر الذي يطالب بمجانية التعليم دون طرح البديل، غير أن ما يطرحه الدكتور المعاني غاية في الاهمية لانه الوحيد الذي يتبنى مشروعا متكاملا في هذا الاطار وبالتالي يجب الاصغاء له ومحاورته للوصول بالجامعات الى بر الآمان.
أما موضوع الدراسات العليا فهي رفاهية، وليست ضمن التعليم الجامعي الأساسي والإلزامي لغايات التعلم والتوظيف؛ وإنما هي استزادة من العلم يقوم به الأشخاص القادرون على دفع تكاليفها، وبالتالي لا يجب ان نضع برنامج البكالوريوس في سوية الدراسات العليا، وكلاهما مختلف في الأهداف والرؤية، واذا أردنا ان تصل الجامعات الى رؤية تصل معها الى إلغاء الموازي ومجانية التعليم علينا ان نقرأ المقترحات بعناية لأنها تناقش الامر بفكر منفتح ورؤية واضحة المعالم؛ خاصة حين يقول المعاني: « لو نظرنا للبرنامج العادي لوجدنا ان هذا البرنامج يشمل مجموعات من الطلبة تقوم الدولة ومؤسساتها بتسديد رسوم ما يقارب 40 بالمئة منهم، وهم طلبة المكارم الملكية وطلبة المنح، وعليه لو الغينا البرنامج الموازي وعوضنا الجامعات عن رسومه، ونظرا لان 40% من رسوم البرنامج العادي تسدد عادة من الحكومة ومؤسساتها، لا يتبقى الا 60 % من طلبة البرنامج العادي يسددون ذاتيا. ولما كانت الرسوم التي يسددونها هي بمعدل الف دينار سنويا للطالب، فإن اعفائهم منها وجعل التحاقهم مجانا لن يضيف عبئا كبيرا». ولا تتوقف رؤيته عند هذا الامر وإنما يقترح الغاء البرنامج الموازي على مدار ثماني سنوات وتخفيف اعداد الملتحقين بالجامعات لتحقيق معايير الاعتماد على مدار خمس سنوات، والبدء بمجانية الدفعات الملتحقة سنويا بعد بدء التطبيق. وهذا الامر على حد قوله يحتاج الى تمويل سنوي متدرج الزيادة خلال السنوات الخمس ليصل في السنة السادسة الى (244) مليون دينار.
المشروع المقترح جاء متكاملا ويحتاج لقراءة واعية لغايات تطبيقه مرحليا كي تصل الجامعات الى تمويل ذاتها عن طريق الصندوق الوطني للتعليم الذي يقترحه والذي ينشأ بقانون ويتبع للبنك المركزي ويموله الشعب الاردني برسم يفرض على لتر البنزين متدرجا من 20 فلسا في السنة الاولى الى 64 فلسا في السنة الخامسة وما بعدها.
وفعليا لو لم تلغ الحكومة رسوم الجامعات عام 2009 مع قانون ضريبة الدخل الذي أوقف اقتطاع ضرائب الجامعات اعتبارا من 1 /1 /2011 والتي كانت تُدر مبلغا يتجاوز ثلاثماية مليون دينار تستطيع فيه الجامعات ان تدرس كل طلبتها بالمجان؛ لكن الحكومة حينذاك اصرت على أخذ تلك المبالغ لتترك الجامعات مواجهة قدرها المالي الصعب.
وبعد، مطلوب من الحكومة ان تنقذ الجامعات من مديونيتها، وان تقرأ ملفات الجامعات بعناية ودقة، لتجاوز أوضاعها السيئة، ولا بدّ في هذا الإطار من عقد مؤتمر خاص يتفق فيه الجميع حكومة وجامعات على اعادة مناقشة الرسوم في الجامعات الرسمية كلها دون استثناء ووضع اطروحات المعاني في صلب محاور هذا المؤتمر لمناقشتها والتوافق عليها لمصلحة الجامعات والعاملين فيها، ودون ذلك ستواجه الجامعات انخفاضا في ايراداتها المالية مما يؤثر على استقطاب الكفاءات العلمية التي قد تواجه نقص التمويل في الرواتب والعلاوات التي تدفعها الجامعات لاعضاء هيئة التدريس والإداريين؛ واي مساس فيها قد يؤجج المواقف السلبية، ويعرض الجامعات لشبح الانهيار المالي ومشكلات هي في غنى عنها. نعم اوضاع الجامعات لا تحتمل ومواقف رؤساء الجامعات لا يحسدون عليها؛ إذ يواجهون شهريا مشكلة توفير الرواتب وهو أمرٌ صعب وطريف وغاية في التعقيد!؟
mohamadq2002@yahoo.com


جريدة الرأي 11/4/2016

التعليم العالي المجاني وجدلية تمويله

13/04/2016 - 2:15pm
طلبة نيوز- أ. د. فايز خصاونة*
أطل علينا الزميل والأكاديمي المخضرم معالي الدكتور وليد المعاني، بمقالين في "الغد" الغراء، يدعو فيهما إلى مجانية التعليم العالي، ويقدم مسوغات عديدة تبرر ما ذهب إليه، على رأسها العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
وتوقعت أن ينبري بعض المهتمين بشأن التعليم العالي لمناقشة ما طرحه معاليه تأييدا أو تحليلا أو اعتراضا. ولكن لم أقرأ لتاريخه أيا من ذلك؛ لا من الوسط الأكاديمي ولا من المهتمين بالشأن العام. وقد يفسر المتابعون هذا السكوت تفسيرات مختلفة، أحدها أنه توافق مع الطرح أو إقرار به، مما دعاني أن أتناول مشروع الدكتور المعاني (مشروع مجانية التعليم العالي) بالتحليل والتعليق، وخصوصا أنه سيكون مطروحا في المؤتمر الوطني الذي تنظمه اللجنة الوطنية لتطوير الموارد البشرية الشهر المقبل.
تأتي الدعوة إلى مجانية التعليم العالي في ظل الحراك الطلابي في الجامعة الأردنية، المعارض لرفع رسوم البرنامج الموازي وبرامج الدراسات العليا، والذي تصاعد مؤخرا. وهي دعوة تدغدغ عواطف الطلبة وجيوب أولياء أمورهم، بل هي دعوة تحظى في ظني بشعبية عارمة، تغلق الباب أمام أي اعتراض أو نقد يوجه إليها. لكن الحرص على مستقبل الأجيال القادمة يقتضي أن لا تستند قراراتنا على الشعبية فقط، بل أيضا على التحليل الذي يضيء لنا الطريق للاختيار الذكي من بين بدائل تُغَلّب الصالح العام. ولهذا، فإني استميح القارئ عذرا وأدعوه لمشاركتي بتفكير معمق في حيثيات هذا المشروع، وما تترتب عليه من تبعات يمكننا تصورها مسبقا قبل أن تظهر آثارها بعد تطبيقها.
من المسلم به أن للتعليم العالي في الجامعات العامة (وأفضل تسميتها بهذا الاسم تمييزا لها عن الجامعات الخاصة، رغم أننا درجنا على تسميتها في تشريعاتنا وأدبياتنا بالجامعات الحكومية تارة، والرسمية تارة أخرى) كلفا لا بد لجهة ما أن تتحملها. وقد جاء في مشروع مجانية التعليم العالي أن هذه الكلف سوف تغطى من مصدرين: خزينة الدولة؛ ورسوم تُفرض على وقود السيارات. وحقيقة الأمر أنهما كليهما من منبع واحد، هو الشعب، أي إن فئات الشعب كافة سوف تشارك في تغطية هذه الكلف. وهنا يجب أن نتوقف قليلا ونفكر في تبعات هذا الطرح، ونستعرض بعض الحقائق ذات الصلة.
أولا: يشكل طلبة الجامعات نسبة محددة من شريحتهم العمرية، وهي حاليا تراوح حول 32 %، علما أن الرأي السائد يصور لنا أن الإقبال على التعليم الجامعي أكبر مما يجب أن يكون عليه، وأن كل الاستراتيجيات التي وضعت للتعليم العالي كانت تنادي بتخفيض نسبة الإقبال على التعليم العالي لصالح التعليم التقني والتدريب المهني. أي إننا ننادي بأن تنخفض النسبة إلى أقل من ذلك. وما يهمنا في الأمر أن مشروع مجانية التعليم العالي يحمل الكلف لفئات الشعب كافة، بينما لا يستفيد من ذلك سوى ثلث أبنائه وبناته في أبعد تقدير. صحيح أن مخرجات التعليم العالي لا تنحصر في المتخرجين منه، بل إن المخرجات تشمل أيضا نتائج البحوث والدراسات التي تجريها الجامعات، وصحيح أن المتخرج سوف يوظف كفاياته ومهاراته التي اكتسبها في دراسته الجامعية لخدمة المجتمع وإذكاء التنمية الاقتصادية فيه، إلا أن هذا التوظيف سيكون مأجورا وذا مردود مادي يعود على صاحبه أولا وآخرا. وهذا يطرح تساؤلا مهما يتعلق بنسبة المشاركة هذه؛ حول المبررات التي تسوغ لنا تحميل جميع شرائح المجتمع كلفة خدمة لا يستفيد منها إلا الثلث في أبعد الحدود.
ثانيا: طالما أن الشعب بجميع أطيافه وشرائحه سيكون شريكا في تحمل الكلفة، فكيف سنقرر من يجوز له أن يستفيد من الدراسة الجامعية؟ إن مجرد المشاركة الشمولية في تحمل الكلف ترتب للجميع حقوقا متساوية يحق لهم أن يطالبوا باستيفائها. وعندما نضع أسسا وضوابط للتعامل مع هذه الحقوق، لا بد أن تستند في جوهرها على الجدارة لتكون مستساغة عند الشعب. ولنفترض جدلا أننا توافقنا على أداة لقياس مستوى الجدارة، سواء كانت هذه الأداة هي امتحان "التوجيهي" كما نعرفه الآن أو أي امتحان وطني مقنن نستبدله به؛ ولنفترض أيضا أننا توافقنا على تحديد مستوى الجدارة الذي لا بد للطالب أن يبلغه ليسمح له بولوج ساحة الدراسة الجامعية. ولتبسيط الحديث وتوضيح الصورة، دعونا نفترض جدلا أن الأداة هي امتحان "التوجيهي" كما نعرفه، وأن المعدل الحدي الذي يتقرر بموجبه جواز الالتحاق بالدراسة الجامعية من عدمه هو 60، عندها يصبح لكل طالب حصل على معدل 60 أو أعلى حق في مقعد جامعي مجاني يطالب به تحت شعارات المساواة الدستورية ومعايير العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وهذا يعني حكما أننا قللنا الطلب على الدراسة في الجامعات الخاصة، سواء كانت ربحية أم غير ربحية. وربما أن هذا هو هدف بحد ذاته عند البعض، إلا أن ذلك ليس موضوعنا الآن. المهم لنا الآن أن هذا الأمر يجعل الإقبال على الجامعات الخاصة محصورا فيمن لم يحصل على التخصص المطلوب في إحدى الجامعات العامة تنافسيا، وهو بذلك يرفع عدد الطلبة الذين سيلتحقون بالتعليم المجاني بمقدار من سيتحول من الدراسة برسوم عالية إلى الدراسة المجانية. ولا نستطيع أن ننكر عليهم ذلك طالما أنهم قد حققوا المعدل الحدي. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن التحول للتعليم المجاني سيحدث خرقا في قدرتنا على التخطيط لتنمية مواردنا البشرية بما يتناسب مع رؤيتنا الإنمائية الاستشرافية، لأننا سنفقد السيطرة على أعداد المقبولين في مختلف التخصصات الجامعية، وخصوصا تلك التي تدرس في جامعات خاصة برسوم مرتفعة. فعلى سبيل المثال، إذا كان عدد الطلبة الذين حصلوا على معدل 80 فما فوق في سنة ما هو 10 آلاف طالب وطالبة، فإنهم جميعا سيطالبون بدراسة تخصصات الهندسة والصيدلة وغيرها مما يتطلب معدل 80 حدا أدنى، وسنخلق مشكلة مجتمعية تتمثل في ضغوط قوية لاستيعابهم جميعا طالما أن الدراسة مجانية. سنلجأ عندها إلى التنافس المتكافئ لاختيار الأجدر من بينهم، علما أننا لم نتقن عملية التنافس المتكافئ تاريخيا. ولأن البديل هو الدراسة في الجامعات الخاصة برسوم مرتفعة، أو جامعة أجنبية برسوم أعلى، فإن الضغوط المجتمعية سوف تصل درجة لا تطاق. وفي المحصلة، سوف تنخفض نسبة الطلبة الذين سيلتحقون بالجامعات الخاصة مقارنة بالنسبة الحالية، علما أن الجامعات العامة مكتظة أصلا  فوق معايير الاعتماد. وهذه معضلة إضافية، لأن جامعاتنا العامة غير قادرة على التعامل مع التحول المتوقع. ولا يستقيم الأمر بأن نخفض المعدل الحدي للجامعات الخاصة بالقول إنه يجوز لهم أن يقبلوا طلبة بمعدلات أقل من 60 في مثالنا الافتراضي، لأنه في الوقت الذي نقرر أن المعدل الحدي للجامعات الخاصة هو 55 مثلا، يصبح لزاما علينا أن نستوعب من حصل على تلك المعدلات في التعليم المجاني إذا التزمنا بالمساواة وتكافؤ الفرص. ويندرج هذا الأمر على موضوع دراسة بعض طلبتنا في جامعات أجنبية في تخصصات لم يقبلوا فيها محليا.
ثالثا: إن مجانية التعليم العالي تعني حكما أن الجامعات العامة ستكون مقيدة في كل أمورها بما تخصصه لها خزينة الدولة في قانون الموازنة. وبهذا ستسقط ورقة التوت عن كل ما تبقى من شعار استقلالية الجامعات. وأتوقع أننا سوف لا نشعر بتغيير كبير لأن أمر استقلالية الجامعات ما كان يوما إلا شعارا خاويا خاليا من المضمون. فليس ذاك هو المقلق، بل المقلق أن لنا تجربة مريرة مع المالية العامة في موقع التعليم العالي على سلم أولوياتها الإنفاقية. ومهما وضعنا من نظريات وضوابط على أي رسوم جديدة مخصصة للجامعات، فإنها لن تختلف عما كانت عليه قبل إلغائها، وسيبقى القرار بيد مديرية الموازنة في وزارة المالية، وأكبر عبرة لنا في هذا المجال هي في قراءة الصورة في الدول العربية المجاورة، وخصوصا مصر وسورية، مستثنيا بذلك الدول العربية النفطية لاعتبارات لا تحتاج إلى تفسير.
رابعا: كان لنا تجربة ناجحة في موضوع تمويل التعليم العالي. وأثبتت الأيام في العقود الثلاثة الأولى من عمر التعليم العالي في الأردن أنها كانت تجربة ناجحة وفعالة، وضعت التعليم العالي الأردني رغم حداثته في مقدمة الدول العربية والإقليمية، وحققت قدرا عاليا من العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وقد قامت تلك التجربة على أساس تقاسم الكلفة بين الشعب والطالب الملتحق بالجامعة. وكان التقاسم يستند على سياسة واضحة، هي الإقرار بأن المستفيد من خدمات الجامعة طرفان: طرف مباشر وهو الطالب؛ وطرف غير مباشر وهو الشعب أو المجتمع. وتمثلت مساهمة الطرف المباشر في الرسوم الجامعية، بينما تمثلت مساهمة الطرف غير المباشر في حزمة من الرسوم المخصصة للجامعات وحصة من الإيرادات الجمركية طالت معظم شرائح الشعب ونشاطاته الاقتصادية. ثم بدأنا نعبث بهذه السياسة التشاركية عندما ارتفعت أصوات تنادي بأن على الجامعة أن تستوفي كامل كلفة التعليم من الرسوم الجامعية. لقد كان ذلك تحولا جذريا في أهم ركن من أركان سياسات التعليم العالي، وكان يطلق عليه (Full Cost Recovery)؛ بمعنى استرداد كامل الكلفة من الرسوم الجامعية. وكان من بين المنادين بهذا التحول قامات وطنية مشهود لها في ميادين الخدمة العامة، ولأنها كانت في موقع صنع القرار، فقد تبنت ذلك التوجه مقتنعة بصواب رأيها منذ حوالي منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فآلت الأمور إلى ما آلت إليه الآن؛ إذ أصبحت المخصصات المالية المحولة إلى الجامعات سنويا أقل من 7 % من الإنفاق الإجمالي في العشر سنوات الماضية، باستثناء ما تم تحويله من المنحة الخليجية في آخر سنتين. أي إن تقاسم الكلفة الذي كان سائدا قبل مرحلة التحول في السياسة التشاركية، قد انخفض من المناصفة إلى أقل من العُشر. وفي واقع الحال، فإن الأمر أشد مرارة من ذلك، إذ إن الرسوم التي تتحملها الحكومة عن طلبة المكرمتين الملكيتين لأبناء المعلمين والجيش والأجهزة الأمنية (وهم يشكلون 25 % من المقبولين تنافسيا) لا تغطي إلا 40 % من الكلفة الحقيقية لو طبقنا مفهوم استرداد الكلفة. وبهذا الحساب، فإن الحكومة تبقى مديونة للجامعات بعد كل تلك التحويلات، ناهيك عن أمر النسبة الباقية (75 %)، وناهيك عن عبء آخر يتعلق بتحميل الجامعات الكلفة الكاملة لتعليم أبناء المتقاعدين من الأجهزة الأمنية الذين يتقاعدون من الخدمة بمعلولية جسيمة.
إن للسياسة التشاركية في تحمل كلفة التعليم مبررات وجيهة جدا، لأنها تستند على أن الطالب الذي يتأهل للالتحاق ببرنامج جامعي يدفع رسوما تغطي نسبة محددة من تلك الكلفة، بينما يتحمل المجتمع النسبة المتبقية منها، وذلك لأن الطالب هو المستفيد المباشر بينما المجتمع هو المستفيد غير المباشر؛ فلا نحمل المجتمع كل الكلفة كما يدعو مشروع التعليم المجاني، ولا نحمل الطالب كل الكلفة كما يدعو مشروع استرداد الكلفة الكاملة. وإذا سألنا عن النسبة العادلة التي ينبغي استيفاؤها من الطالب، فهي تحتمل الاجتهاد على ضوء عوامل عديدة ومتغيرة لا يتسع المجال للخوض فيها الآن. ولكن لأنها من ركائز سياسات التعليم العالي، فإن الطرف صاحب الاختصاص في ذلك هو مجلس التعليم العالي، وعليه أن يضع لها سياسة واضحة التزاما بما نص عليه القانون.
يبدو لي في ختام هذا التحليل أن مشروع مجانية التعليم العالي جاء نتيجة التفكير في إلغاء البرنامج الموازي إلغاءً فوريا أو متدرجاً، والبحث عن بدائل لتعويض الجامعات عن إيراداته. وهذا يعني ضمنا أن البرنامج الموازي شر مستطير لا بد من الخلاص منه بأي طريقة ممكنة. ولكن هل هو فعلا كذلك؟ لا شك أن له سلبيات جمة، خصوصا بالصيغة التي أصبح عليها. لكن التفكير المعمق يجد له بعض الإيجابيات سآتي عليها في مقال لاحق. وأكتفي بالقول هنا إن نظرة شمولية للمشهد كله تكشف لنا أن منهجية "الموازي" لم تعد محصورة بالصورة النمطية في أذهان الكثيرين منا. فما تفشي الدروس الخاصة في المراكز الثقافية والأكاديميات المنتشرة إلا نمط متطور (وخبيث) من أنماط الموازي، حيث يتلقى طلبة الجامعات "دروس تقوية" في مواد جامعية، والمدرسون هم أنفسهم مدرسو الجامعات. فإذا كان الهدف هو تدبير إيرادات بديلة، فلربما نجد بدائل أخرى لا تحمل في طياتها مخاطر وتبعات عديدة كالتي تقدم شرحها، بل يجدر بنا أن نفكر كثيرا قبل المناداة بها أو قبولها.


*رئيس مجلس أمناء جامعة اليرموك

Featured Post

PINK ROSE